تطرح الترجمة الأدبية، من خلال الممارسة، مسائل بعيدة عمّا يتداوله المهتمون بنظرية الترجمة أو المنكبّون على رسم الضوابط لعمل المترجم. ففيما يطرح هؤلاء مبدأ الأمانة للأصل انطلاقاً من ملكية المؤلف للنص، تطرح الممارسة مسألة أخرى، هي وظيفة النص المترجم في المجتمع وعلاقته بالقارئ. هكذا تنقلب وجهة النظر، وتتحول الترجمة عن صفتها كعمل لغوي وأدبي لتتلبس بصفة أخرى ذات طبيعة براجماتية. فالمترجم في نظر الكثيرين مجرد آلة للترجمة، بينما هو، في نظر نفسه، كاتب يتعامل مع الأفكار ويجتهد للتعبير عنها في قالب تعبيري ملائم. وهو، ككل كاتب، يحمل أهدافاً ثقافية وسياسية وشخصية، ويعالج المادة القائمة بين يديه معالجة تفيد أهدافه، هذا الاختلاف في وجهة النظر يُخفي صراعاً حقيقياً بين الكاتب والمترجم على ملكية النص، ويقوّض بعض المسلّمات في نظريات الترجمة السائدة.
في شهر مايو 2001 أطلقت دار.كسترمان، بالاشتراك مع دار نشر محلية في الصين، الترجمة الرسمية لمغامرات تن تن. رافق هذا الإصدار خطأ في الترجمة حوّل عنوان كتاب «تن تن في التيبت» إلى «تن تن في التيبت الصينية». وهذا الخطأ شكّل تحدياً لدار النشر البلجيكية بسبب ما تحمله عبارة «التيبت الصينية» من تضمين سياسي حسّاس.
ما أسمنياه «خطأ في العنوان» لم يكن خطأ أصلاً، فليست العبارة الأصلية غامضة ولا ملتبسة ولا عصيّة على الترجمة. كان الأمر تغييراً متعمداً في العنوان. فهل يتحمل المترجم تبعته لأن الترجمة عمله ومسئوليته؟
ليس الأمر بهذه البساطة. فالترجمة عملية إنتاج ثقافي يشكّل فيها التحويل اللغوي للنص - وهو عمل المترجم - جزءاً من منظومة متكاملة. لهذا لا يمكن البحث في عمل المترجم من دون البحث في شروط اختيار الكتاب الأجنبي، والاتفاق على حقوق المؤلف، وتيسير الوصول إلى الوسائل والمراجع المساعدة، وتحديد دور المصحح وكفاءاته وطبيعة علاقته بالمترجم، ورسم الضوابط للناشر لصيانة النص وحماية حقوق المترجم، ووضع رقابة على الرقابة كي لا تتحول إلى استبداد، ومعالجة غياب نقد الترجمة في ظل تجاهل الناقد لعمل المترجم وحصر نقده بمضمون الكتاب.
في منظومة الإنتاج هذه يمثّل المترجم الإنسان العامل، بينما يمثل المصحح والناشر والرقيب والناقد السلطات اللغوية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وهي سلطات قامعة تتنافس في فرض الشروط على المترجم لتخضعه وتحوّله إلى عبد. وهي سلطات متزمّتة تطارد في النص كل أثر لروح المترجم من دون أن تدري أنها تسلب الترجمة روحها.
الترجمة الراقية تحتاج إلى مترجم حر. فلا مسئولية من غير حرية تحمي المترجم من محاولات تطويعه ليقوم بدور الآلة بدلاً من تطوير الآلة لتقوم بدور المترجم. فهل سيفطن المنظرون إلى أن الترجمات الآلية ترجمات اصطناعية يشبه بعضها بعضاً، وأنه سيكون عليهم في المستقبل أن يحوّلوا القارئ إلى روبوت ليقرأ هذه الترجمات المعدنية؟
الترجمة الراقية تحتاج إلى مترجم يملك الحريات اللازمة لإدخال النص الغريب إلى لغة ومجتمع ومعتقدات وثقافة وجماليات فنية تغاير تلك التي نبت منها. وهذه الحريات متعددة ومتطورة، وكل تحديد لها آني، وكل وصف لها جزئي. وأرى أن المتاح في هذا المقام هو التوقف عند ست منها فقط:
حرية المترجم في اختيار النص الترجمة فعل ثقافي نستعير فيه من الغير ما يلبي حاجاتنا ويوسع مداركنا ومعارفنا. هناك الترجمة لسدّ الحاجة، أي للفائدة، وهناك الترجمة للمتعة الثقافية، ترجمة الحاجة تتطلبها المؤسسات الإدارية والصناعية والعسكرية، أما ترجمة المتعة الثقافية فيتطلبها الأفراد. المترجم الحر يتوق إلى نقل الكتاب الذي يحمل المتعة الثقافية لأنه يتطلع من خلاله إلى ما يتجاوز الترجمة، أي إلى تأثير الكتاب المترجم في المجتمع، وبالتالي إلى تأثيره هو في المجتمع. ومَن يقرأ مقدمة ابن المقفع لكتاب «كليلة ودمنة»، يدرك كم بدا المترجم حريصاً على أن يفهم القارئ حكمة الكتاب، وعلى ألا يكتفي بالفهم، بل إن يقرن المعرفة بالتطبيق، لأن الحكمة لا تكون نافعة مالم نعمل بها ويشع أثرها فينا وفي مجتمعنا. ومَن يراجع المقدمات التي وضعها بعض المترجمين لأعمالهم يكتشف هذا الرضى، بل الزهو الذي يبديه المترجم، وهو يبين أهمية الكتاب الذي نقله ومكانة مؤلفه وما يجنيه القارئ منه. فالكتب القيّمة علامات على مترجميها مثلما هي علامات على مؤلفيها.
حرية المترجم في مراعاة المعتقدات مادامت الصفات النفسية والعقلية متباينة عند الأفراد، ومادامت القيم الاجتماعية والشخصية مختلفة بين المجتمعات، فقد يبيح كاتب من مجتمع معين، في المسائل العقائدية والشخصية، ما لا يقبله مجتمع آخر. فهل من الأمانة العلمية أن ينقل المترجم ما يعتبره قرّاؤه إساءة إلى قيمهم ومقدساتهم؟ كثيرة هي المشكلات التي تواجه النص حين ينتقل من عالم ثقافي إلى عالم ثقافي آخر، وهي مشكلات لا تنحصر في مجال الثقافة الاجتماعية بل تتوسع إلى المجالات الدينية واللغوية وحتى المادية. فما الحل لهذه المشكلات؟ أهو بالنقل أم بالحذف أم بترك خيال المترجم الخلاق يستنبط الطرق لمداورة العقبات، فلا يخسر النص سوى القليل من معانيه؟
حرية المترجم في مراعاة ذوق القرّاء الذوق مسألة أساسية في الترجمة، لأن ما هو مقبول في لغة ليس مقبولاً - أو ليس مقبولاً بالدرجة نفسها - في لغة أخرى. فالعرب يقبلون المبالغة ولو تخطّت المعقول، لأنها إحدى المحسنّات البديعية في شعرهم. ولكن هذه المبالغة قد تكون مصدراً للاستهجان في لغة أخرى. أيّ صورة يمكن أن يرسمها القارئ الأجنبي للشاعر نزار قبّاني لو قرأ ترجمة أمينة لمغامراته النسائية.
في مجال المسرح تكون مراعاة الذوق أكثر إلحاحاً منها في المجالات الآخرى، لأن طبيعة المسرح تفرض علاقة مباشرة بالمشاهدين. والمعروف أن الجمهور لا يتذوّق بسهولة ما هو غريب عن جوّه وبيئته. فهل يلتزم مَن يترجم للمسرح بحرفية النص متجاهلاً ذوق المشاهد، أم يمارس حريته فيعرب هذا الغريب أي ينقله إلى الجو العربي؟ لو عدنا إلى مترجمي المسرح في عصر النهضة، واستشرنا شيخهم نجيب الحداد، لنصحنا بالتعريب، وهذا ما فعله عملياً في ترجمة مسرحية «الطبيب المغصوب» لموليير.
ففي الفصل الأول من هذه المسرحية ظهر سكاناريل ممسكاً زجاجة خمر ومردداً أغنية فرنسية، فحذف المترجم الأغنية تاركاً للمخرج إمكان وضع أغنية عربية ملائمة في مكانها. وفي الفصل الثاني من المسرحية حاول سكاناريل إقناع مستمعيه بفائدة الخمر والخبز في تحريك اللسان بالكلام، فضرب لهم مثل الببغاء، ولكن المترجم وجد أن الببغاء غريبة عن الجو العربي، فاختار مثل السكير الذي يجعله الخمر كثير الكلام. فهل ما فعله نجيب الحداد صوابا أم خطأ، وبأي مقياس؟
حرية المترجم والثقافة عندما ينقل المترجم ما لا وجود له في واقعه ولا مسميات له في لغته يجد نفسه أمام مسئولية جديدة هي ضمان وصول المعنى إلى قرّائه. وفي حين يكتفي المترجم المتعجّل بتعريب الكلمة، أي بنقلها بلفظها إلى العربية، أو يبحث في المعجم عن أقرب الألفاظ إلى مسماها، يدرك المترجم الحر أن الترجمة تتعدى إيجاد المعادل اللفظي. فالأصل في الترجمة ليس إيجاد المعادل المعجمي في اللغة المنقول إليها، بل بلوغ فهم القارئ بدقة ووضوح وجمال تعبير. فالترجمة الحقيقية هي التي تسمح لقارئها أن يفهم الأصل. والمترجم الحر هو من يلجأ إلى الوسيلة التي تسمح للقارئ بفهم الكلمة الأجنبية، ولو اضطر إلى ترجمتها بعبارة بدل الكلمة الواحدة المبهمة، أو اقتضاه الأمر أيضاً إضافة معلومة قصيرة عنها في المتن أو في الحاشية.
حرية المترجم مع اللغة هذه المسألة لم تنل الحظ الكافي من الدراسة. فحين ينقل المترجم كتاباً موضوعاً منذ قرون، فإن الدقة العلمية تقضي أن ينقله كما كان مفهوماً في زمن المؤلف. والتزام هذا المبدأ يجعل عمل المترجم أقرب إلى الدراسة الفيلولوجية منه إلى الترجمة، ويفرض عليه كفاءة ليست مطلوبة منه في الأصل. فالبحث الفيلولوجي يتطلب دراسة تاريخ الأفكار، ومراجعة الدراسات التعاقبية للغة النص الأجنبي، والاطلاع على الأبحاث التي تناولت النص، وينتج عنه امتلاء النص المترجم بالتعليقات والتفسيرات التي تبين معاني الكلمات، ودلالات الأوضاع، والتضمينات التي تحملها الألفاظ والعبارات. هذه الترجمة العلمية الدقيقة هي ترجمة العلماء، وهي ضرورية في نقل الكتب الخاصة كالكتب «المقدسة»، أما ترجمة المترجمين فليس من شأنها أن تكون كذلك، بل شأنها أن تكتفي بما هو ممكن وعملي أي نقل النص كما يفهمه المترجم في حاضره.
على أن لترجمة المترجمين هذه وجهاً إيجابياً، فترجمة النصوص القديمة كما نفهمها في الحاضر هي إعادة كتابة لها، ولو في غير لغتها، وبالتالي تحديث لنصها. ولكن الإيجابية ليست دائمة لأن النص المحدّث يفقد جِدّته مع مرور الوقت، فيصبح بحاجة إلى تحديث جديد. ومَن يقرأ ترجمة رفاعة الطهطهاوي لرواية «مغامرات تليماك»، وقد صدرت الترجمة في ستينيات القرن التاسع عشر، يشعر ببعدها عن لغة عصرنا وألفاظه وتعابيره، ويحس بحاجة الرواية إلى ترجمة جديدة.
حرية المترجم في مراعاة جماليات الصياغة التفنن هو وسيلة المترجم الباحث عن الإبداع وعن المجد الشخصي من خلال جودة الترجمة. وهناك إجماع على أن التصرف في معاني النص هو إخلال بصحة الترجمة، وأن الابتعاد عن أسلوب الأصل يضيع الكثير من ظلال المعاني ومن جماليات الخطاب ومن سمات التجديد أو التقليد فيه. وهناك من المؤلفين مَن يدفعهم حرصهم عى نصهم إلى المبالغة في التشديد على التزام لغة الأصل وأسلوبه وإخراجه. فيمنعون المترجم من نقل النص بغير أسلوب المؤلف ولو خالف قواعد الجمال في لغته. ويفرضون عليه نقل الإيقاع والنفس والقصد الموسيقي واللحن الذي يولده التكرار. ويتمسكون بالشكل الطباعي وحجم الحروف وعلامات الوقف كما هي مرسومة في النص الأصلي. وهكذا يحولون النص المترجم إلى عمل هجين لا يفهم حقيقته سوى مَن يعرف اللغة الأصلية؟ ومَن يعرف اللغة الأصلية لا يحتاج إلى قراءة الترجمات.
ولكن إذا كان التشدد في التزام الأصل هو مطلب المؤلف المبدع، فإن حق المترجم المبدع أن يترفّع عن الحرفية والسطحية، وأن يحاور النص، ثم يصوغه صياغة الكاتب الفنان. ومهما استوعب المترجم أسلوب الكاتب وصفاته ومميزاته، وحاول نقل كل ذلك إلى القارئ، فإنه ينقله بصوته وشخصيته وفهمه وأسلوبه. لقد أُعجب أمين الريحاني، الأديب الناقد الشاعر، بقصيدة «النجوم» للياس فياض، فترجمها إلى الإنجليزية ونشرها، ولما اكتشف أنها مترجمة عن سولي برودوم قال: إن «القصيدة قبل الشاعر»، فعلاً إن النص قبل المؤلف، لأن الترجمة زواج يترك فيه النص لغته لينتمي إلى لغة أخرى، ويترك مؤلفه لينتمي بنسبة ما إلى مترجمه. وهذا يكون خصوصاً في الترجمة الإبداعية التي تفرغ النص الأجنبي في قالب لا يتنكّر لأصله ولكنه يأخذ بجماليات لغته الجديدة كيلا يصبح جسماً أجنبياً فيها.
هذه بعض الحريات التي لابد أن يتمتع بها المترجم إزاء النص الأجنبي، ففي ظل استحالة نقل الأصل نقلاً كاملاً يصبح عمل المترجم هو البحث عن الممكن، وتصبح الترجمة نوعاً من الحوار بين المترجم والكتاب.
وهو حوار لا يتوقف، يكشفه التلقيح المتواصل الذي يجريه المترجم في نصه.
وهو حوار لا ينتهي، تفضحه الرغبة السرية لدى كل مترجم في إعادة الترجمة ولو بعد سنين من نشرها.
وهو حوار يثبت استحالة الترجمة الأدبية من غير حرية، ويثبت استحالة الترجمة الآلية في مجال الأدب.
getTitleAuthor()
لطيف زيتوني
نقلا عن مجلة العربى الكويتية
الثلاثاء يونيو 29, 2010 10:18 am من طرف Rewayda