”المولد النبوي محور العدالة الكونية“
أولا:المولد النبوي والتوازن الكوني
يقول الله تعالى:”وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين“ويقول النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:”إنما أنا رحمة مهداة“.
وكتصوير نظمي وصياغة شعرية جمالية لهذه الرحمة على سبيل العشق والمحبة يقول البصر رحمه الله تعالى:
فهو الذي تم معنا وصورته ثم اصطفا حبيبا بارئ النسم
منزه عن شيك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسم
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت فيه مدحا واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظم
فإن فضل رسول الله ليس له حد فيعرب عنه ناطق بفم
لو ناسبت قدره آياته عما أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
ثم يقول:
أبان مولده عن طيب عنصره يا طيب مبتدأ منه ومختتم
سئل النبي صلى الله عليه وسلم :متى ولدت يا رسول الله ؟
قال :في زمن الملك العادل!
بهذه الذكرى أو الصفة يؤرخ النبي صلى الله عليه وسلم لمرحلة ولادته كتأكيد على جوهر الرسالة وغايتها التي جاء من أجلها ألا وهي: إقامة العدل والمساواة بين الناس،لأن العدل يمثل الوسط الذهبي لكل الفضائل وأنماط السلوك و به قامت السموات والأرض.
يقول الله تعالى :”الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان،الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان “سورة الرحمن آية 1-7
فالعدل أساس الملك و الكون،وأساس الدين والعقيدة،ومن هنا فقد كان الإمام العادل من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وهذا فيه معنى دقيق ألا وهو ارتداء الإمام العادل لرداء العدل الذي قد يحميه من العوامل الكونية ومؤثراتها البيئية على بنيته وتكوينه سواء النفسي أو الجسدي،لأنه سيكون حينئذ مستغنيا عنها طالما أنه ملتزم لمبدأ العدل الذي يقترن لغة بالاعتدال وهو ضد مظاهر الفساد والزوال .
من هنا فالعادل قد يخلد فوق التراب وتحته.فوق التراب بالثناء الحسن وعلو الصيت والسجل المحمود عبر مرور الزمن والتاريخ ،وتحت التراب بعد أكل الدود والطفيليات لجسده وتحلله بفعل البلى والتغيرات البيئية والمناخية وما إلى ذلك.
وهذا المآل قد ثبت تاريخيا وبالملموس وخاصة في حق الملك العادل الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما قد يحكيه بعض المؤرخين .
بحيث أن الإشارة النبوية قد خلدت هذا الشخص أي كسرى أنو شروان في التاريخ حينما وصف بصفة العدل ومن جهة أخرى جعلت منه مسرحا للفضول لغاية التنقيب على جسده مما سيتأكد معه صفة العدل الملازمة لمن لم يأكل التراب جسده،على نمط الشهداء وغيرهم من الصالحين.
هكذا إذن قد يتحصل رجل العدل على حصانة كاملة سواء فوق التراب أو تحته،ناهيك عن الحصانة الكبرى حينما تكتمل عقيدته ويصح توحيده الذي هو أصل العدل ومصدره الشامل،فيكون غدا يوم القامة عارٍ عن كل رداء سواء كان معنويا بسبب منصب الحكم الذي تولاه أو كان ماديا بسبب الحصون التي كان يتحصن بها والتي مهما تنوعت فقد تبقى مادية ترابية محضة ومتحللة .
وحيث أن هذا العبد العادل وفي هذا اليوم الرهيب يكون في مقام الفقر المطلق وفاقدا لأبسط وسائل الحماية والتغطية فإنه في تلك المرحلة سينعم بالرداء الإلهي المباشر كجزاء مناسب للصفة التي تحلى بها ألا وهي العدل،وهو اسم من أسماء الله الحسنى،وهو بهذا يكون قد قلد مولاه وأطاعه في التزامه لمعنى هذه الصفة التي على أساسها قامت السموات والأرض وكل ما في هذا الوجود،وهو عنوان الكمال والتوازن الكلي له،وهذا قد حدث في زمن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم كتلازم كوني وغيبي وظاهري وباطني كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم :”إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلقه الله“.
وبخصوص هذا الحديث يقول الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي:”كذلك استدار الزمان فأظهر محمدا صلى الله عليه وسلم كما ذكرناه جسما وروحا بالاسم الظاهر حسا،فنسخ من شرعه المتقدم ما أراد أن ينسخ منه وأبقى ما أراده الله منه،وذلك من الأحكام خاصة لا من الأصول ،ولما كان ظهوره بالميزان وهو العدل في الكون وهو معتدل لأن طبعه الحرارة والرطوبة كان من حكم الآخرة،فإن حركة الميزان متصلة بالآخرة إلى دخول الجنة والنار،ولهذا كان العلم في هذه الأمة أكثر مما كان في الأوائل،وأعطي محمد صلى الله عليه وسلم علم الأولين والآخرين لأن حقيقة الميزان تعطي ذلك ،وكان الكشف أسرع في هذه الأمة مما كان في غيرها…”الفتوحات المكية دار صادر ج1ص144 .
هذا العدل أو الميزان سيكون عنوان الوجود الإنساني وأجلى مظاهر زمنه وتكوينه وذلك بالموازنة بين الروح والجسد وتحقيق صورة الإنسان الكامل الذي ينبغي أن يستنير ويستهدي به كل طالب للسعادة والكمال والعدل وصحة الميزان.
ألا بأبي من كان سيدا وآدم بين الماء والطين واقف
فذاك الرسول الأبطحي محمد له في العلى مجد تليد وطارف
أتى بزمان السعد في آخر المدى وكانت له في كل عصر مواقف
أتى لانكسار الدهر يجبر صدعه فأثنت عليه ألسن عوارف
إذا رام الأمر لا يكون خلافه وليس لذلك الأمر في الكون صارف
هكذا إذن قد جاءت ولادة النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف كوني ووجودي مكتمل الدورة وفي طور إنساني مختتم النفَس لكي يجدد له مظاهره على وتيرة العدل بعدما افتقد عبر القرون والأزمان واختل التوازن بتكسير الميزان( القسطاس).
من هنا فقد يمكن تفسير خصوصيات ولادته صلى الله عليه وسلم في ظل الظروف الاجتماعية التي كانت قائمة آنذاك سواء كانت عامة أو خاصة.
فالتأريخ العام قد كان وما يزال يتم بعام الفيل وهو مظهر من مظاهر الظلم والطغيان الذي صار يسود العالم ظاهرا معلنا ومبادرا لا متحفظا،أي أن الظلم قد أصبح هو صاحب الجراءة والإقدام على اقتحام المقدسات والحرمات،وبالتالي العمل على قلب الحقائق والمبادئ ضدا على المصلحة العامة وبوازع النفس والأنانية والتعصب.
إذ أن أبرهة الحبشي كان قد أغار على مكة المكرمة من أجل هدم كعبتها كرد فعل على فشل مشروعه التركيعي من الجانب الروحي للأمة العربية الأبية،وهو يتمثل في بناء كنيسة القليس كمحاولة لصرف العرب عن الحج إلى الكعبة مربط الوحدة العربية ومجمع توجههم .
وحيث أن أبرهة لم يكن عادلا فإنه قد أراد أن يسقط ظلمه على كل من خالفه وأن يجعل من نفسه مقام المشرع الذي هو من اختصاص الألوهية وتصرفها بالمباشرة أو الواسطة النبوية،لأنه لا أحد يمكن له أن يفرض عقيدته على الآخر من منطلق القوة أو من مبدأ القناعة الشخصية،وذلك لأن أبسط اعتراض يمكن له أن يدحض دعواه ،وهو: من تكون أنت حتى تفرض علي معتقدك وشعائرك وشريعتك بالقوة والإكراه؟
فالجواب لن يعدو هاتين الفرضيتين وهما:
-أنا إنسان مثلك
-أنا غير إنسان
في حالة قوله أنا إنسان مثلك فسيكون الجواب هو:أن المثل لا يمكن أن يتميز عن غيره بالامتياز أو الاشتمال والاحتواء!إذن،فلا يمكن لأحد المثلين بسط نفوذه على الآخر بالقوة مع ادعاء العدالة في إرغامه على اتباع معتقده ،لأنه سيقابل بعدم توازن المعتقد في حد ذاته كيفما كان نوعه طالما أنه مفروض بحسب المزاج والقوة الظرفية،وهذا ما لا يضمن له الاستمرارية.
والسبب هو أن هذا المعتقد رهين بتوازن القوة والقهر والغلبة من هذا الطرف أو ذاك،أ ي حينما تكون دولة قوة فقد تكون عقيدة حاكمها هي المسيطرة وعندما تصبح ضعيفة يتغير نفوذها وتتراجع عقيدتها ،على نمط تغير الحضور اللغوي بين الدول وارتباطه بالتقدم الاقتصادي والتقني وغيره من المظاهر المادية، فتتولى الريادة العقدية بدلها دولة أخرى لها نفس المعتمد على القوة والطغيان وفرض المعتقد بالعنف.
إذن فلا عقيدة ثابتة ستسود العالم ولا وحدة تصور ستجمعه، وبالتالي فلا سلم ولا عدل سيربط علاقات دوله بعضها ببعض.
أما في حالة قوله:أنا غير إنسان. فهو إما أن يكون من جنس المخلوق أو غير مخلوق، ومحال أن يكون غير مخلوق،إذن فهو بالضرورة يكون مخلوقا ،ومحال أن يكون ملَكا،لأن الملائكة غير قابلة لأن تسير على الأرض مطمئنة ،ومحال أن يكون حيوانا محضا لأن الحيوان غير ناطق.
فالنتيجة إذن هي أنه إنسان مهما علا شأنه في شكله وقُنْيته وسطوته وشتى مظاهر سعيه.
لكن مع هذا فالعدل مطلوب ضرورة عند الإنسان الخالص لكي يستقيم أمره وينسجم مع وجوده وكونه،وإلا عرف نشازا وتصادما واندثارا لا محالة.
من هنا فقد يأتي المطلب الشريف حو ل ضرورة وجود النبوة والرسالة الإلهية لإقامة العدل وتثبيت العقيدة في الوجود والمجتمع،وذلك لأن شخص النبي مماثل للإنسان العادي ومتميز عنه،مماثل باعتبار البشرية والظاهر ومتميز باعتبار الاختصاص والاصطفاء.
هذا الاختصاص ليس ذاتيا ولا اجتماعيا محضا ولا نخبويا أو نتيجة مجهود فردي وقوة بطش عسكري،وإنما هو من اختيار إلهي عادل،به قد قام العدل في السموات والأرض وتم التواصل بين الكائنات المرئية وغيرها .
في حين لم يتم الإلزام بما تضمنه هذا التخصيص أوالاختيار إكراها وإخضاعا اعتباطيا وجزافيا وإنما هو مع ذلك قد جاء بآيات ودلائل وبينات قد تتفق عليها جميع العقول الإنسانية السليمة وتستجيب لمضمونها فطرة وذكاء ووعيا.
هذه البينات ستعرف في حق الأنبياء والرسل بالمعجزة،وهي في حد ذاتها لها دلائل على العدل ،وذلك لأنها في حالة ما أخضعت الآخر من الناس وعجزته عن الإتيان بمثل ما جاء به النبي أو الرسول من حقائق وعلوم وتحديات كونية فقد يكون من الواجب عليه عدلا وأخلاقا عقدية أن يسلم له و يعترف بخصوصيته وتميزه،طالما أن هذا النبي قد أثبت معجزته تلك من غير دجل أو شعبذة أو تخييل ومناورة.
قلت:إنها في حد ذاتها قد تكون عدلا،لأن صاحبها لا يلزم غيره بمعتقده إكراها وفرضا بالقوة أو سيطرة كما عبر بذلك قول الله تعالى:”إنما أنت منذر لست عليهم بمسيطر“، وإنما قد يخضعهم بالدليل،ولله لا لنفسه.أي لمصدر العدل والتشريع،والذي هو نفسه مصدر المعجزة ومصرِّفها،والتي قد ابتدأت عمليا بولادة النبي صلى الله عليه و سلم ،كان يؤرخ لها بعام الفيل.
وهذا فيه إيذان واضح بأن العدل يغلب الظلم والحق يغلب الباطل والطغيان مهما علا شأنه ومها ظهر جبروته على الأرض الفانية،وذلك لسبب بسيط وهو حكم الميزان والعدل الذي أسس عليه الكون:”والسماء رفها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان و أقيموا الوزن بالقسط“.
فأبرهة قد كان رمز الظلم الظاهر في الأرض،وعلى ضده قد كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سر العدل الباطن،ومحال للظلم المبني على الوهم والسراب أن يهزم الحقيقة الثابتة في الوجود ولو كانت باطنية.
إذ انهزام أبرهة قد كان بمعجزة ،وهذه المعجزة ستتبثها واقعا ونصا معجزة أخرى قدسية وهي: القرآن الكريم الذي أنزله الله على سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم وذلك في سورة “الفيل” التي يقول الله فيها:”ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول”.
هذه المعجزة سيقوم بدورها وسيَعيها حيوان بُكم وبهم من دون سائر البشر آنذاك ممن يدعون الوعي والقوة والإرادة وحسن التشريع،وذلك لأن ذاك الحيوان قد كان فطريا ويسير على وفق سنن الله تعالى وشريعته التي جعلها له في الوجود .
إذن فهو سواء كان متوحشا أو مسالما قد لا يصبح ظالما أو معتديا لأنه يسير حسب طبيعته التي خلقه الله عليها. بحيث إذا بدا وكأنه ظالم فليس ذلك سوى درس موجه إلى الإنسان وتنبيه له على خطئه وتعديه لحدوده،وإذا كان مسالما مستكينا فهو أيضا كذلك ليرفع من حسه وشعوره بالعزة والكرامة .
فالفيل قد كان حيوانا وله قوة ونفوذ في الغابة ويستطيع أن يدوس كل من يعترض سبيله فيها،وذلك هو طبعه وقانونه،لكنه لما وجه نحو الحرم المكي حيث الكعبة المشرفة رفض وامتنع ولو على حساب حياته ورزقه وآلام جسده،وذلك لوعيه بأنه لو تخطى عتبة المقدس فسيكون ضالا ومعتديا على ملك غيره ومجاله.
فلقد وصف المؤرخون الواقعة ومجرياتها كما يقول الواقدي بأن الحبشة :”لما تعبأوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب فيها،فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح،وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ليقهر الفيل على دخول الحرم،وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة على حراء ينظرون ما الحبشة يصنعون و ماذا يلقون من أمر الفيل وهو العجب العجاب…فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم “طيرا أبابيل” أي قطعا صفرا دون الحمام وأرجلها حمر،مع كل طائر ثلاثة أحجار،جاءت محلقة عليهم،وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا.قال عطاء:ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة بل منهم من هلك سريعا ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم.قال ابن إسحاق:فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عليهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم”تفسير ابن كثير ج3ص678
لا يهمنا - الآن- الوصف التفصيلي لأشكال الطيور وطريقة إصابتها للغزاة بقدر ما تهمنا الواقعة في حد ذاتها ودلالتها القوية على مبدأ العدل ورفض الظلم بكل أشكاله لغاية تسخير الحيوان لإعطاء درس بواسطته،وهذا معجز في حد ذاته لأنه لو كان الخلاف بين الإنسان وأخيه على قطعة أرض أو ملك معين يريد كل واحد السيطرة عليه بقوة لكان الأمر يبقى صراعا قد تكون الغلبة فيه للأقوى،لكن وقد تعلق الأمر بحرمة خالق الكون والإنسان والحيوان فالاعتداء عليه هو اعتداء على الحق ومصدر العد، وبالتالي فهو ظلم وعدم احترام لشعائر الله تعالى ،و هو ذو خلفيات عقدية تريد أن تفرض نفسها بالقوة والظلم والبطش بغير حق ولا إذن إلهي.
من هنا فقد كانت الحرب معلنة من طرف الله تعالى وبتسخير أضعف خلقه في إهلاك أبرهة وجيشه بواسطة طير أبابيل كما تم إهلاك النمرود فيما يحكى تأريخا بواسطة بعوض صغير قد دخل أنفه ولم يخرج.
فالفيل بالرغم من أنه مروض ومتحكم فيه من طرف أصحابه إلا أنه لم يخضع لأوامرهم وإنما خضع للأمر الإلهي الذي خلقهم وخلق الفيل معهم وسخره لهم.
إن هذا الحيوان قد مثل ظاهرة في باب المعجزة وذلك في الدلالة على صدق النبوة وخصوصياتها في تحقيق العدل بالأمر الإلهي لا بمجرد نزعة ذاتية أو رغبة نفسية ولو لتطبيقه من أجل المصلحة العامة المتوقعة،وذلك لأن الحيوان فطري وهو بهذا قد بقى خارج دائرة الصنعة والتكلف وبالتالي كما أشرنا من قبل بأنه عُرّف بدقة حدوده ومجاله.
ولهذا فهو لم يخضع لأي مخلوق إلا بالأمر الإلهي في التسخير كما أنه قد يدرك بفطرته ويميز بين حرمات الله تعالى ومقتضى الخلق والغريزة وصراع الكائنات.
لذا فقد تتكرر المواقف من المسألة المتعلقة باقتحام حدود الحرم المكي الذي يحتوي الكعبة بيت الله الحرام وذلك من خلال رفض ناقة النبي صلى الله عليه وسلم -رغم أنه نبي وصاحب إذن إلهي - من التوجه نحوها حتى يأتيها الإذن الخاص من الحضرة الإلهية وبواسطة النبي نفسه الذي سيحدد سبب دخوله مكة ومراده منها،كما يروى في كتب السنن والسير من :”أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش بركت ناقته فزجرها فألحت،فقالوا:خلأت القصواء،أي حرنت.فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل “ثم قال:”والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إلها ثم زجرها فقامت”رواه البخاري.
فهذا الحديث تضمن منتهى معنى العدل ودقته وذلك في حكمه على القصواء بعدم الحرون أو الامتناع عن الامتثال لسبب ذاتي وذلك كتزكية لها عن هذا السلوك الذي هو ليس من طبعها ولا تربيتها،أي أن الحيوان قد يستقر على تكوين تربوي وسلوك معين يحدد شخصيته ويصبح عنوانا عليها شأنه كالإنسان في كثير من المواقف، وهذا ما عبر عنه النبي صلى الله عليه و سلم بأن هذا التصرف من الناقة ليس :”لها بخلق“إذ أن الأمر أبعد من هذا وأدق وأعقد وذلك لوجود قانون ضابط في الو جود لا يعلمه كثير من الناس ولا يدكه إلا من خصه الله تعالى بالاصطفاء وهم الأنبياء الذين هم أهل إقامة العدل المطلق على الأرض ظاهرا وباطنا ،قولا وعملا ،عقيدة و شريعة.
ولهذا فالناقة من جهة هي مطيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخرى مطيعة لله تعالى ومعظمة لحرماته.كما أن الرسول مدرك لحكم امتناعها عن الوقوف ومواصلة السير،ولذلك لم يعنفها.بينما الناس العاديون والسطحيون في إدراك سر هذا الأمر قد اعتقدوا عكس الحقيقة ورموها بالتلكؤ والحرون ،وهو قصور في التصور والإدراك وسرعة حكم بغير علم وعدم إدراك لقانون الحيوان وعلاقته بالأمر الإلهي وحرماته.
فالرسول هو محور العدل في الأرض ومعه تتفاعل كل الكائنات الفطرية وتتجاوب،بل قد تحن إليه الجمادات والأخشاب وكذا الحيوانات لوعيها بذاته الشريفة وضرورة وجوده.
من هنا فقد وقع الإنسان في الغلط ولم يغلط الحيوان،وتجرأ بالنقد والاعتراض ولم يتجرأ الحيوان،كما نجد هذا النموذج المصور لنا قصور البشر عن إدراك حقيقة عدالة سيد الأنام.
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسمها بين الأربعة:الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المشاجعي عيينة بن بدر الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب،فغضبت قريش والأنصار وقالوا : يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا،قال:إنما أتألفهم.فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق،فقال:اتق الله يا محمد !فقال:من يطع الله إذا عصيته،أيؤمني على أهل الأرض فلا تأمنوني …؟رواه البخاري في كتاب الأنبياء.
وفي رواية قال رجل من المنافقين :”هذه قسمة ما أريد بها وجه الله،فغضب عليه الصلاة والسلام حتى احمر وجهه وقال:ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟!“.
من هنا فسيحدد النبي صلى الله عليه وسلم وظيفته في الوجود وغايته من الرسالة وسعة أفقه في تصور العدالة التي قد تشمل كل الكائنات وتحديد الوسائل والغايات، كما يعطي لنا مفهوما أدق للعدالة وتطبيقاتها ميدانيا وعلى غير عجلة وصورة ميكانيكية قد تؤدي في حالة عدم مراعاة الفوارق والظروف إلى عكس مرادها.
بحيث قد يشخص لنا النبي صلى الله عليه وسلم وجها لهذه الدقة التطبيقية بقوله:”إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار “رواه البخاري في كتاب الإيمان .
بعودتنا إلى مبدأ التأريخ لولادة النبي صلى الله عليه وسلم فسندرك مدى أهمية التركيز على زمن الملك العادل رغم رفض بعض الرواة لهذا الحديث بدعوى اعتباره من نزعات شعوبية فارسية إلى غير ذلك من مبررات الطعن حسب بعض المناهج،وقبوله لدى البعض الآخر من بينهم بعض الصوفية كالشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه الفتوحات المكية وذلك لأسباب عقدية قد تخدم عقيدة التوحيد ومبدأ تجلي الأسماء.
فقد يمكن القصد بالملك العادل كسرى أنو شروان كما وردت به الرواية،أو أنه فيه إشارة إلى التجلي الإلهي كما قد يعبر عنه الصوفية على الأرض باسمه الملك والعادل للحكم بين الناس وإقامة التوازن على الأرض بصورة شمولية،والذي سيظهر بصورته الكاملة من خلال وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بدأت مؤشراته تطفو على السطح بولادته.
بحيث أنه بمجرد خروجه صلى الله عليه وسلم ولادة إلى الكون فستنعكس آثاره أولا على إيوان كسرى نفسه بسقوط شرفاته وتصدع إيوانه كما يلخصه البصيري رحمه الله تعالى نظما:
يوم تفرس الفر س فيه أنهم قد أنذروا بحلول البؤس والنقم
وبات إيوان كسرى وهو منصدع كشمل أصحاب كسرى غير ملتئم
والنار خامدة الأنفاس من أسف عليه والنهر ساهي العين من سدم
وساء ساوة أن غاضت بحيرتها ورد واردها بالغيظ حين ظمي
فهذه الأبيات قد تلخص لنا صور التغيرات التي حصلت في بلاد فارس كانت قد بلغت أوجا كبيرا من التوسع والمدنية والتطاول في البنيان لحد توهم تحدي العالم ومواجهة كل قوة حسية ومعنوية فيه،كما قد يصف المؤرخون الإيوان المذكور بأنه:”بناء بني طولا غير مسدود الوجه يعده الملك للجلوس فيه لتدبر ملكه،وقد كان سمك ذلك الإيوان مائة ذراع في مثلها ومكث في بناءه نيفا وعشرين سنة،ولهذا كان يظن أنه لا يهدمه إلا نفخة الصعق،وقد أراد هارون الرشيد هدمه لما بلغه أن تحته مالا عظيما فعجز عنه فأبقاه على حاله”[1].
فكسرى وإن اشتهر بنوع من العدل الظاهري في قومه خاصة إلا أنه قد كان عدلا مبتورا وغير مكتمل،لأنه لم يلتزم شروطه الحافظة له من الزوال والاندثار وذلك لما صاحبه من نزعة نحو الاستعلاء والترف والتبذير وما إلى ذلك،وهذا كله قد يتعارض مع مفهوم العدالة الحقة والمؤدية إلى التوازن العام و الشامل.
فحتى وإن كانت دولة تطبق العدل في رعيتها كما قد يزعم أصحابها إلا أنها قد تظلم جيرانها وتفرض عليهم هيمنتها ،بل قد تسعى إلى سلبهم هويتهم بالقوة والدسائس والفتن على غرار ماتفعله الدول الغربية في عصرنا وعلى رأسهم الولايات المتحد الأمريكية من زعمها الالتزام بالديمقراطية ومبادئ العدالة وحقوق الإنسان وما إلى ذلك.
لكن ما أن تتخطى عتبة حدودها حتى تنهار جميع تلك القيم المدعاة ويعامل الآخر بصورة الاستعلاء والتصنيف العنصري…
وهذا كله قد يتعارض مع العدالة ومفهومها الصحيح الذي جاء به الأنبياء والرسل عليهم السلام ،وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي كما سبق وقلنا قد عدل حتى في حكمه على الحيوان والاعتراف بخصائصه الخلقية الثابتة والإيجابية،بل قد يعدل حتى بين قدميه ونعليه وباقي أطرافه الشريفة ،بحيث حينما يتمزق أحد نعله فقد يتأبط كلاهما حفاظا على عدالة واستفادة قدميه الشريفتين بالتساوي من الانتعال!.
هذا ناهيك عن أن الدولة الفارسية الكسروية قد كانت تمارس الظلم الأكبر ألا وهو: عبادة النار من دون الله تعالى،وهي صورة من الشرك والظلم لحق الخالق الواحد الأحد والمستحق للانفراد والظهور بأوصاف الألوهية والكمال والغنى المطلق.
من هنا فقد كانت ولادة النبي صلى الله عله وسلم بداية عهد جديد في التغيير والتصحيح وإيذانا بأفول طغيان الظلم الأكبر وانطفاء شعلته وناره بنور اسم: الله أكبر،بحيث قد يروى ”أنه لما ارتج إيوان كسرى وسقط منه الأربع عشر شرافة في عهد كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز أحزنه ذلك فوجه إلى النعمان ملك العرب يستفسره عن سر ما بدا،فرفع النعمان الخبر إلى سطيح وقد أشرف على الضريح وهو القبر ،فقال:يكون سبي وسبايات ويموت ملك وملكات بعدد الشرفات”.
فلقد كان الحدث يمثل فترة نهاية الإمبراطورية الفارسية المجوسية وبداية العهد الجديد المؤسس على عقيدة التوحيد،سيكون الحامل للوائه والمشخص لمعانيه عقيدة وشريعة وسلوكا هو رسول الله صلى عليه وسلم بالعدل والمعجزة منذ البداية وحتى النهاية،والذي لم يبادر إلى مهاجمة أو غزو الفرس إلا بعد إقامة الحجة عليهم في تخليهم وابتعادهم الكلي أو الجزئي عن مبادئ العدل ومظاهره.
بل قد وصل بهم التطاول على مركز العدل ومعينه في الكون وذلك من خلال الرد السيئ الذي جابه به كسراهم دعوته ورسالته،كما ورد في السيرة من أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه :”عبد الله بن حذافة السهمي بكتاب إلى كسرى ملك الفرس،وفيه”بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس،سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله،أدعوك بدعاية الله فإني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين،أسلم تسلم ،فإن أبيت فإنما عليك إثم المجوس “فلما وصله الكتاب مزقه استكبارا،ولما بلغه عليه الصلاة والسلام ذلك قال:”مزق الله ملكه كل ممزق“وقد فعل،فكانت مملكته أقرب الممالك سقوطا،وقد بدأ هذا الشقي بالعدوان،فأرسل لعامله باليمن أن يوجه إلى الرسول من يأتيه به إليه،فعاجله الله بقيام ابنه شرويه عليه وقتله له،ثم أرسل لعامله في اليمن ينهاه عما أمره به أبوه”نور اليقين ص20.
هكذا إذن تحدث المعجزة باسم العدل من حيث لا يخطر على بال الظالمين،وهكذا تم التصرف في مسار الطغاة الذين قد يستكبرون في الأرض بغير حق ويتوهمون أن جنودهم وعساكرهم هي التي قد تحميهم من سطوة العدل ونفوذه وخاصة حينما يستهدف أهله والقيمين على تطبيقه والأمر به بين الناس لإطفاء نوره وقمع تداوله والتعامل به على وجه الأرض.الآية
من هنا فقد تصبح المبادرة لأهل العدل بالعدل لمقاومة الظلم والطغيان وستسترسل في التوسع كمعجزة ممتدة على أرض الواقع ومستمدة من مدرسة صاحب العدل ومؤسسها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ،وذلك من خلال معركة القادسية على عهد الخليفة الثاني الراشد عمر بن الخطاب الفاروق رضي الله عنه،الذي قد كان نموذجا واقعيا لتلك المدرسة الخالدة وخاصة حينما يوصي أصحابه بالتزام العدالة في عز الحرب والاقتتال وقوة شوكة العدو،أقتبس له رسالة إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول فيها:”إني ألقي في روعي أنكم لقيتم العدو وهزمتموهم فاطرحوا الشك وآثروا النقية عليه ،فإن لاعب أحد منكم أحدا من العجم بأمان أو قرفه بإشارة أو لسان كان لا يدري الأعجم ما كلمه به وكان عنده أمانا فأجروا ذلك مجرى الأمان،وإياكم والضحك والوفاء للوفاء،فإن الخطأ بالوفاء بقية وإن الخطأ بالغدر الهلكة وفيها وهنكم وقوة عدوكم وذهاب ريحكم وإقبال ريحهم،واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شئنا على المسلمين وسببا لتوهينهم”[2].
ويقول في كتاب لعتبة بن غزوان أمير البصرة ب:”أن أعزب الناس عن الظلم واتقوا واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون بينكم أو بغي فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه وقد تقدم إليكم فيما أخذ لكم فأوفوا بعهد الله وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا”[3].
وهكذا فلقد كان فتح المسلمين لبلاد فارس بالعدل كما يصفه المؤرخون وخاصة بخراسان،فإن أهلها قد تعاقدوا”مع الأحنف بن قيس وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا زمن الأكاسرة،فكانوا كأنما هم في ملكهم،إلا أن المسلمين أوفى لهم وأدل،فاغتبطوا”[4].
بهذا الوصف قد كانت مدرسة العدل عند المسلمين وعلى هذا النموذج هي مرجعيتهم في كل الظروف والأحوال و به انتصروا منذ ولادة النبي صلى الله عليه وسلم حتى اتساع رقعة الفتح في الآفاق وعبر ربوع العالم .
بحيث أن العنصر الروحي وسر القلوب أو أسرها قد كان حاضرا بقوة في تثبيت العدالة في الأمة،وحينما يظهر نوع من الطغيان أو الانفلات الجزئي فقد تلجأ ثلة من أهل الو صال والمناجاة عن قرب إلى رفع راية التحدي والتذكير بسر الملك أو السلطان الذي قد تقلده المسلمون،كما نجده في هذا الحوار بين المعتصم العباسي وبعض صالحي بغداد بعدما استبد الأتراك بالأمور وبدؤوا يمارسون أنواعا من المضايقات واختراق حدود العدالة وارتكاب المظالم حيث “قالوا له:تحول عنا وإلا قاتلناك !قال:كيف تقاتلونني وفي عسكري ثمانون ألف دراع!قالوا:نقاتلك بسهام الليل- يعنون الدعاء والتضرع إلى الله تعالى- فقال المعتصم:والله ما لي بها طاقة!فبنى لذلك سُرَّ من رأى وسكنها”[5].
وكأنني هنا بالمعتصم وهو يتذكر دعوة النبي صلى عليه وسلم على كسرى الفرس بتمزيق ملكه كل ممزق بسبب ظلمه،ومن ثم فقد أصابه رعب واستسلام للطلب طالما أن في قلبه شعلة من إيمان وقبس من عدل واحترام لأولياء الله الصالحين!.
فالاسترسال في تحليل مسار العدل وامتداد الأثر النبوي في تحصيله عبر العالم وإلى يومنا هذا من خلال الضمائر الحية الواعية بمؤسسة الوجود وأساس الملك قد يفضي بنا إلى التوسع في تحليل معنى كلمة العدالة وضوابطها وخصوصياتها في الإسلام وهذا موضوع قائم بذاته وبحر لا ساحل له ومعين لا ينضب.
لكن حسبنا وغرضنا هنا هو ربط المولد لنبوي الشريف بواقع العدل وتفاعل الدول والمجتمعات به على سبيل المعجزة سواء شعرت بذلك من خلال ما كان واردا في كتب التوراة والإنجيل أو من خلال الهواتف والإشراقات الروحية التي واكبت قرب ولادته صلى الله عليه وسلم وحينها،أو لم تشعر وإنما تفاعلت كاستجابة فطرية وخضوع كوني لهذه الظاهرة التي عمت أرجاء العالم ،وربطا بموضوع طلوع نجم خاص أو تغيرات جيولوجية وبيئية سجلها التاريخ آنذاك توثيقا ورواها الرواة على سبيل الاشتهار .
لكن الأهم مما قد كان لدينا هو مدى ارتباط المولد النبوي بواقع العدل والتوحيد عند الأمم والنتائج التي ستـأتي فيما بعد ظهوره صلى الله عليه وسلم كنبي مرسل .
وأركز هنا على دولتين رئيستين قد كانتا ذات حضور مؤثر في الساحة التاريخية والعالمية آنذاك،قوة وعقيدة ونفوذا عسكريا وسياسيا وهما دولة الفرس المجوسية السابقة الذكر ودولة الحبشة المسيحية ،بغض النظر عن دولة الروم التي قد تشترك مع الحبشة في باب العقيدة والدين.
فالحبشة كما ذكرنا قد ابتدءوا عند مرحلة ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بممارسة نوع من الطغيان والظلم لأقدس المقدسات على وجه الأرض ألا وهي:الكعبة المشرفة بيت الله الحرام،والتي عندها قد كان يوجد مهد الوساطة العظمى للدلالة على سرها وكمال صفات ربها ألا وهي واسطة النبي والرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
من هنا فقد كانت المعجزة لحماة الدليل وباب المدلول عليه:”وما كان الله لعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون“.
فالبيت له رب يحميه والرسول له مرسل يغني ويغار عليه.
إذ انهزام أبرهة الأشرم بهذه الصورة المأساوية من باب المعجزة قد كان خيرا على أمته ودولته التي ستأخذ درسا في العدل وعاقبة الظلم وسينتقل الحكم بعدها إلى يد رجل عادل يواكب بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ويوافق دعوته بالإيمان به حيث سينعت من طرف الرسول نفسه بأنه :”لا يظلم عنده أحد” وذلك حينما وجه أصحابه بالهجرة إلى الحبشة التي كان يحكمها النجاشي
فالبداية مع أول عهد النبوة قد كان الحبشة فيها ذات موقف سلبي و سيئ لا تحسد عليه،ولكن كما يقال :كل نقمة إلا وفي طيها نعمة !.
أما الفرس فقد كانت المناسبة قائمة للتأريخ بزمن الملك العادل عند فترة الولادة والإشارة إلى إيجابية النظام القائم آنذاك،لكن مع هذا فقد كانت نقط البداية للعد العكسي في باب العدالة التي لم تكن ترتكز على الأساس العقدي في وصلها بالعدل الحق على صورة سليمة،حتى إذا بلغ الطغيان والظلم والاستكبار ذروته سيتحقق السلب الكلي لكل أزمة الأمور من يدي الفرس المجوس وتبديلهم بالفرس المسلمين الموحدين تحت ظلال السيوف وبقوة السلاح المكسرة لغرور الأكاسرة وطغيانهم وعدم رضوخهم إلى الحق بدعوة السلام والعدل.وبالتالي سيصبح الفرس أهل الإيمان وحماة لدين والعدل بشتى أمرائهم وعلمائهم وصالحيهم،لا فرق في ذلك بينهم وبين من كان تصدع وسقوط إيوان كسراهم على أيديهم.
فالعدل قد كان هو المحرك في البداية والنهاية والغاية، وهو لازم للتوحيد،ومن ثم فلا غزو ضد أهل العدل من الموحدين ولا عدل كامل بغير التوحيد الذي يتضمن اسما من أسماء الله الحسنى وهو العدل.
في حين أن أهل الحبشة برغم إذايتهم للعرب وهجومهم على الكعبة المشرفة لم يتعرضوا للغزو أو الانتقام من طرف الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أصبح مجسدا لمفهوم العدل ظاهرا وباطنا،بل قد نهى أصحابه في حياته وبعد وفاته من أن يجابهوا أهل الحبشة لسابقة العدل وترسخه في أرضهم وحكامهم،وبالتالي احتضانهم لدعوة العدل والتوحيد عبر القرون،إضافة إلى هذا فقد كان حضور المسلمين في الحبشة مدعما روحيا وعسكريا للنجاشي ضد من كانوا يحاولون عزله وتولية غيره ممن دونه في باب العدل وحسن السياسة.
ثانيا:الأبعاد العقدية والتربوية للولادة النبوية
1) النسب النبوي وخصوصيته الروحية
فيما يتعلق بالأساس الروحي للنبي صلى الله عليه وسلم فقد توجد هناك دلائل ونصوص تؤكد خصوصيته كنبي في عالم الغيب قبل عالم الشهادة،وذلك من خلال قوله صلى الله علي وسلم كما يروى :”كنت نبيا وآدم منجدل في طينته“أو “كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد “.
فهذه الأحاديث -إن صحت - قد تشير إلى حقيقة النبوة وشمولية نبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النبوات والرسالات من لدن آدم عليه السلام حتى بعثته،وهو ما قد اصطلح عليه عند الصوفية وغيرهم بالحقيقة المحمدية ، سبق وأن تناولناها بدقة علمية وعمق عقدي في كتابنا المتواضع :”التجديد في دراسة علم التوحيد“.
بيد أن الذي قد يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو ارتباط هذه الحقيقة بالزمن الكوني ووعي الكائنات بحضوره وشعورها بخصوصية عصرها من خلال وجوده صلى الله عليه وسلم..يقول الله تعالى :”الله أعلم حيث جعل رسالاته“. وفي صحيح البخاري لما سأل هرقل ملك الروم لأبي سفيان تلك الأسئلة عن صفاته عليه الصلاة والسلام،قال:كيف نسبه فيكم؟قال:هو فينا ذو نسب،قال:كذلك الرسل تبعث في أنساب قومها،يعني في أكرمها أحسابا وأكثرها قبيلة،صلوات الله عليهم أجمعين.
فهو سيد ولد آدم وفخرهم في الدنيا والآخرة،أبو القاسم وأبو إبراهيم ،محمد وأحمد والماحي الذي يمحي به الكفر والعاقب الذي ما بعده نبي والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه والمقفي و نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة وخاتم النبيين والفاتح وطه ويس وعبد الله.
قال البيهقي:وزاد بعض العلماء فقال:سماه الله في القرآن رسولا،نبيا أميا شاهدا مبشرا نذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ورءوفا رحيما ومذكرا،وجعله رحمة ونعمة وهاديا”[6].
ولقد عبر النبي صل الله ليه وسلم عن مكانته في سلم الوجود بقوله:”أنا سيد ولد آدم يوم القامة ولا فخر“.
ومعلوم أن السيادة يوم القيامة قد تكون انعكاسا لما كان عليه الحال في الدنيا في باب الحق …فإذا كان سيدا في الآخرة فهو سيد في الدنيا - و العكس صحيح - كما في قوله تعالى:”من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا“.
كما أن في الحديث دلالة عقدية ينبغي أن يتفطن لهانوذلك بالتزام مقام العبودية والتي من أهم مظاهرها مبدأ :المولودية،ولهذا فقد عبر النبي صلى عليه وسلم بأنه:”سيد ولد آدم“وذلك للتذكير بأنه مهما ارتقى في مقامه فسيبقى عبدا مخلوقا ومولودا،أي أنه ليس بقديم ولا أزلي ولا يتقمص صورة من صور الألوهية التي من أخص صفاتها ما جمعته سورة الإخلاص في قول الله تعالى:”قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد”.
كما أنه قد لا يمكن أن يتساوى من وصفه المولودية بمن وصفه الأحدية والصمدية والغنى المطلق على سبيل الحلول أو الاتحاد - كما يزعم الحلولية - والذي قد ضل به اليهود والنصارى على حد سواء.
لهذا فلقد جاء تعبير البوصيري رحمه الله تعالى في إطلاق العنان لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم بليغا ولكن في مجال السيادة الخاصة به:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت فيه مدحا واحتكم
وانسب إلى ذاته ما شئت من عظم وانسب إلى قدره ما شئت من حكم
كما أن سيادة الولادة هاته ستتشخص على مستوى التسلسل القويم في سلامة النسب وطهارة العرق والأصل،وهذا ما تدل عليه النصوص تضمينا وصراحة كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم:”ولدت من نكاح غير سفاح“و”إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح”.
وتؤكد هذا التسلسل السليم لنسب النبي صلى الله عليه وسلم عدة آيات قرآنية وأحاديث قد تدل على خصوصيته وسمو حقيقته في الوجود،سواء فيما يتعلق بذاته الشريفة ونورانيتها أو ما يخص حالته الشخصية وواقعه الاجتماعي والتاريخي،في حين قد تنص تلك الآيات على حضور النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند كل تشريع قبله ووجوده بالقوة المباشرة للفعل في حالة وقوع استثناء ومفاجأة أو ظهور له في عهد رسول من الرسل والأنبياء،يقول الله تعالى:”وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه،قال:آقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟قالوا:أقررنا.قال:فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين“وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال:”ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه وليتبعنه“.
فالآية وتفسيرها فيهما تأكيد على سمو النسب النبوي وخصوصية الوجود المحمدي في عالم شهادة،وذلك لأنه قد كان دائما في مقام التشريع ظاهرا وباطنا،وإذ أنه قبل ولادته قد كان باطنا فإنه بالضرورة سيكون حاميا لنسبه من السفاح بقوة التشريع الذي كان ينوب الأنبياء والرسل عنه فيه ظاهرا،ومن ثم فقد حفظ نسبه من كل شوب أو اختلال لمؤسسة الزواج والأسرة الشرعية على وجه الأرض.وذلك لأن مسألة النسب لها ارتباط بعقيدة التوحيد كما بيناها في كتابنا:”أحكام النسب لحماية الأسرة في الإسلام“.
إضافة إلى هذا فقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن واقعه الظاهري والعناية الإلهية الغيبية بنسبه واتصال سنده حينما قال له أصحابه :”يا رسول الله أخبرنا عن نفسك،فقال:”دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى،ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام“رواه ابن إسحاق ،قال ابن كثير:إسناده جيد.
فدعوة إبراهيم قد تتجلى في قول الله تعالى :”ربنا وابعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياتك “الآية، أما بشرى عيسى فهي قوله تعالى:”وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد،فلما جاءهم بالبيات قالوا هذا سحر مبين“.
وعلاقة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذين الرسولين عليهما السلام لها دلالات ومعاني دقيقة وذات ارتباط بمسألة الولادة وتحققها في عالم الشهادة خاصة.
إذ دعوة إبراهيم ستصبح شاملة في الاصطفاء لكل صلب يحمل بذرة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وهي بهذا تؤسس للشرف الكامل لنسبه صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن،وذلك على شكل تسلسل متصل السند غير منقطع،قد يبدو في خصوصية عامة لقومه لكنها في الحقيقة خصوصية فردية متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه هو المقصد بهذا الاختصاص وليس غيره،لكن فضله سيعم كل من جاوره أو ارتبط به أي ارتباط على مستوى الإيجاب أو التقدير.
ففي صحيح مسلم أن رسول الله صلى عليه وسلم قال:”إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم“.
بمعنى أن الاصطفاء من لدن إسماعيل حتى بني هاشم قد كان له بعد رئيسي ومحوري وهو: تأمين خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عالم الشهادة على وتيرة اتصال النسب ووحدته وسلامته من الانقطاع أو الاختلاط،وذلك لخصوصية النورانية النبوية المحمدية في تأسيس مبدأ المشروعية لتحديد العلاقات الإنسانية وارتباطها بالحكم الإلهي الضامن لسلامتها واستمراريتها .
ولقد شخص هذا المعنى شعرا فيما قد ينسب إلى عمه العباس بن عبد المطلب أو الصحابي حسان بن ثابت كما يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم نسرا وأهله الغرق
تنقل من صلب إلى رحم إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من خِنذف علياء تحتها النُّطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النور وسبل الرشاد نخترق[7]
ولنا وقفة مع الحضور النبوي على مستوى وعي الأنبياء والرسل الذين بشروا به صلى الله عليه وسلم وذلك من تفسير ذوقي -إن صح التعبير - وإدراك للمناسبة بين هذا الحضور ومظاهر الواقع.
فمن آدم حتى إسماعيل عليهما السلام قد كان تسلسل بذرة النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وفيه سيعرف هؤلاء الأنبياء أحداثا وبلاءات،كلها ستتسم بالنجاح والحفظ والتكريم.
فأولهم آدم عليه السلام وتكريمه بالسجود له من طرف الملائكة ،وامتناع إبليس عن ذلك واستكباره ثم لجوئه إلى غواية آدم و زوجه حواء من أجل الأكل من الشجرة المنهي عنها والتي بها قد وقعا في عصيان أمر الله تعالى ومن بعدها توبة آدم وقبولها.
بعد آدم سيأتي دور نوح عليه السلام عند السفينة والطوفان ثم النجاة والعودة إلى بر الأمان ،إلى أن يأتي زمن إبراهيم عل
الأربعاء يوليو 28, 2010 5:34 pm من طرف ElM3daWyY