الصدفة وحدها أدت إلى سقوط شبكة اليهودية مساء الثالث والعشرين من يوليو/ تموز عام 1954م عندما احترقت قبل الأوان عبوة كيماوية في جيب (فيليب ناتاسون) أمام سينما (ريو) بالإسكندرية، في هذه الأثناء كانت مصر تبحث لها عن جهاز استخبارات سُمي على حد قول مؤسسه (زكريا محيي الدين) المخابرات السرية، أما اللواء المصري (عبد المحسن فايق) وكيل وزارة التموين سابقاً فهو الذي أخذ على عاتقه مهمة البحث عمن أصبح بعد ذلك أشهر جاسوس مصري وجده في (أفاق) اسمه الحقيقي (رفعت الجمال) نعرفه الآن باسم (رأفت الهجان).
وصل رفعت الجمال إلى إسرائيل بحراً من الإسكندرية عام 1955م، وصلتها أنا جوا عن طريق (لندن) بعد ذلك بنحو نصف قرن، كنت أحاول أن أترسم في خطواتي خطواته الأولى في تل أبيب، ومن ثم خطواته في قبرص، هنا في شارع (بن يهودا) حيث تنتشر مكاتب شركات الطيران وشركات السياحة كان يفتش عن غطاء للبدء في نشاطه السري وقتذاك، وقد صار اسمه في المخابرات المصرية العميل (313) وقتذاك، وقد صار له جواز سفر إسرائيلي صادر من تل أبيب برقم (146742) باسم (جاك بيتون) المولود في المنصورة - مصر.
هذا الذي وضع بعد ذلك بين يدي القيادة المصرية الموعد السري الذي حددته القيادة الإسرائيلية لشن حربها على العرب عام 1967م، دون أن يعلم أحد!! هذا الذي حرق لإسرائيل كثيراً من أغلى جواسيسها، دون أن يعلم أحد!! هذا الذي وضع بين يدي السادات خرائط مفصلة لخط بارليف، دون أن يعلم أحد.
عاش هنا في شارع (يوشع بن نون) في تل أبيب باسم مستعار، ودين مستعار، ولغة مستعارة، وبقلبين وعقلين وسبعة أرواح. في طريق الخروج من القدس سألت سائق السيارة الفلسطيني إن كان سمع برأفت الهجان؟ قال: طبعاً هذا الذي أتى إلى إسرائيل ووقعت في غرامه (إيمان الطوخي) أليس كذلك؟
منحني النائب السابق لرئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) موعداً على الطريقة السينمائية، اتصلت به من لندن، قال: أغلق واتصل حين تصل إلى إسرائيل، فلما وصلت اتصلت، قال: قابلني على الطريق السريع بين (حيفا) (تل أبيب) ستجد محطة لتموين السيارات بالبنزين، إلى جوارها مطعم صغير بالقرب من منطقة (هرتزيليا) انتظرني هناك، طابت لي فكرة أن الموساد يستدرجني لا كي أجيب أنا عن أسئلته بل كي يجيب عن أسئلتي!!
مطعم بسيط تملكه أسرة بسيطة من عرب ما قبل 1948م، لكن الذي تحمله جدران المطعم من صور ومقتنيات أبعد ما يكون عن البساطة.
يقول (جدعون بن عزرا) الذي كان على رأس جهاز الأمن الداخلي في إسرائيل وكان نائباً لرئيس الموساد: إنه لم يشاهد أي شيء عن رأفت الهجان، رفعت الجمال - جاك بيتون.
جدعون بن عزرا (نائب رئيس الموساد سابقاً): لا أنا ما شاهدت، أنا بأعرف شيء واحد إنه مصر أخذت شخص ظلم من.. وقال: إنه كان يشتغل لمصلحة إسرائيل، و.. غير صحيح، وهو عزام عزام، وهو موجود في سجن مصر، اتحكم 15 سنة أظن.
إسرائيل مش على مستوى إنه تلم أخبار من مدنيين، إسرائيل على مستوى إنه هي بدها تعرف المصادر.. المصادر الخطر اللي ضدها، عزام عزام مش الشخص اللي يقدر يساعد إسرائيل، وإحنا نطلب مصر إنه يرجع لبلاده.
يسري فودة: من.. أو ما هي نوعية الشخص الذي تعتقد أنه يمكن أن يصلح لذلك؟ يعني..
جدعون بن عزرا [مقاطعاً]: إن إسرائيل راح تختاره من لكى يجمع أخبار عشان..
يسري فودة: نعم.
جدعون بن عزرا: ما أقدرش أجاوب على هذا، لكن أنت بتعرف طبعاً إيلي كوهين، إيلي كوهين تعرف أنه كان إسرائيلي ووصل إلى سوريا، وكانت له علاقة كويسة جداً مع السلطة اللي هناك، ما كانتش خوف من سوريا، لأن إسرائيل كانت مصيدة كبيرة، ولا يزال مسجون في سوريا، وإحنا بنطلب من سوريا إنه يرجع لإسرائيل.
يسري فودة: ما رأيك فيما يقوله المصريون من أن مصري هو (جاك بيتون) الذي كان يعيش في إسرائيل باسم جاك بيتون هو الذي أوقع إيلي كوهين؟ هل هذا صحيح من الناحية التاريخية؟
رأفت الهجان اختراق استثنائي
ـ عرفت الجماهير العربية من خلال بعض المسلسلات التليفزيونية التي تناولت قصص الجاسوسية أسماء أخرى من المخابرات المصرية، مثل محمد نسيم (نديم قلب الأسد) في مسلسل رأفت الهجان، وكذلك عبدالمحسن فائق الذي اكتشف وخطط وزرع رأفت الهجان في اسرائيل.. فماذا عنهما؟
ـ انضم محمد نسيم الى جهاز المخابرات في الدفعة الثانية، وكان بعد عامين من بدء عمل الجهاز.. كان نسيم نموذجا فذا في الأمانة والصدق، وهو من نوعية ضباط المخابرات القوي المتكامل في قدراته، وبراعة مهاراته، ونجح في تنفيذ كل ما طلب منه نتيجة امكانياته الهائلة، بالاضافة الى التزامه الكامل بما هو مطلوب منه دون أدنى غرض شخصي.. أما عبدالمحسن فائق فكان في دفعة المخابرات التي التحقت بالدفعة الأولى وكان دوره الرئيسي يتركز في النشاط الخارجي ضد اسرائيل، وطبعا كان له الدور الرئيسي في تجهيز واعداد عملية رأفت الهجان.. ولم يستطع أحد أن يكشف أمر عبدالمحسن فائق في الخارج لطاقته الهائلة وكفاءته الممتازة.
ـ عملية مثل رأفت الهجان. كيف تصنفها في العمليات المخابراتية؟ ـ نحن عملنا ما يزيد عن 30 عملية جاسوسية ضد اسرائيل.. أخذنا ناس، وأدخلنا ناس، وكشفنا جواسيس هنا في مصر، وزرعنا آخرين لمدد قصيرة.. كانت العمليات متنوعة وفيها قدرات عالية وبارعة من الجهاز.. وعملية رأفت الهجان هي أقوى اختراق.. فهو كان صاحب قدرات استثنائية في اقناع اسرائيل بأنه واحد منهم، بل أكثر احساسا منهم بأمن اسرائيل والتزامه العقائدي تجاه اسرائيل ككيان.. وكل هذه المسائل تم تدريبه عليها من المخابرات حتى أتقن الدور كاملا.. وأقنع الجالية اليهودية في الاسكندرية والقاهرة بأنه يهودي، وهو كشخص وبهذه المواصفات لا يأتي إلا مرة واحدة.
ـ ألا يمكن مقارنة عملية رأفت الهجان بعملية كوهين؟ ـ كوهين.. دخل حزب البعث وفقط، لم يقم بعمليات ذات قيمة، يعني ليس له أهمية.. ولا توجد مقارنة بين عملية كوهين وعملية رأفت الهجان، فالفرق شاسع بينهما، كما أننا كشفنا عملية كوهين، في حين ظل رأفت الهجان في اسرائيل ولم يتم الكشف عن شخصيته وعن العملية كلها إلا عن طريق المخابرات المصرية.
ـ ما رأيكم فيما تعلنه اسرائيل بين الحين والآخر حول شخصية رأفت الهجان؟ ـ ماذا تعلن؟
ـ قالت في البداية أنه شخصية وهمية، ومؤخرا قالت أنه كان عميل مزدوجاً؟ ـ هذا كلام فارغ.. هم لم يجدوا أمامهم سوى اختلاق مثل هذا الكلام، لأن عملية رأفت الهجان كانت نموذجا فذا لبراعة المخابرات المصرية، وفشل كبير للموساد الاسرائيلي.. وأمام براعة هذه العملية، فالمتوقع منهم أن يردوا بكلام فارغ مثل الذي قالوه.
ـ ضمن الحكايات المدهشة في قصة رأفت الهجان.. أن محمد نسيم (نديم قلب الأسد) دخل اسرائيل لمقابلة الهجان.. وذلك في ذروة المواجهة بين اسرائيل والعرب وفي مقدمتهم مصر.. فما حقيقة ذلك؟ ـ وأكثر من ذلك.. محمد نسيم دخل اسرائيل مرتين، ليس لمقابلة رأفت الهجان فقط، وإنما لتنفيذ عمليات.. واعتمدنا أيضا في عملية الدخول والخروج على أجانب الى جانب عناصرنا الأصلية.. كانت العمليات متواصلة.. بمعنى زرع شخصيات لفترات قصيرة لتنفيذ مهام معينة، وبعد انتهاء العملية تخرج.. يعني ناس تدخل وتخرج في ظل مهام معينة.
مصر تتحدث عن نفسها واين نحن الان
الأحد فبراير 08, 2009 3:21 pm من طرف دكتورة كدة وكدة