كارثة المحميات ابشرية

rظلت المواجهة بين النظريات المنهجية في دراسة تشكل وتغير المجتمع المركزي حتى عشرينيات القرن الماضي، محصورة بين المقاربات الماكروسوسيولوجية التي اعتمدتها تقليدياً النظريات الثقافوية والوظائفية والبنيوية ـ الثقافوية وهي ترى في هذا المجتمع نظام اتساق وتوازن (Ordre) من جهة، وبين المقاربة الماكروسوسيولوجية التي اعتمدتها ايضا النظرية البُنيوية التاريخية وهي ترى في المجتمع ذاته نظاما تصارع (Conflit) من جهة اخرى. ومن ثمّ تحولت بعد العشرينيات الى مواجهة بين المقاربات الميكروسوسيولوجية التي راح يعتمدها البنيويون المتمركسون في مدرسة فرنكفورت منذ أواسط العشرينيات من جهة وراح يعتمدها في المقابل الثقافويون الوظائفيون الجدد في مدرسة شيكاغو منذ اواسط الثلاثينيات من جهة اخرى، في دراسة التشكل والتغير في بُنى المجتمعات المحلية داخل المجتمع المركزي. ولاحظنا أن الاجتهادات المتباعدة بين هذين التيارين في الميكروسوسيولوجيا لم تحل دون التقارب والتواصل الإبستيمولوجي في مواجهة ما يمكن أن نسميه طروحات البنيويات الماكروية أو الكليانية كما في تمييز الخصائص الثقافية التي تبرر تميز الهوية في المجتمعات المحلية، ولا سيما التقليدية منها.
وفي هذا المجال تتزايد أهمية إسهامات الإنتروبولوجيين التي تتيح الاستدلال على خلفيات السلوكيات اليومية والميول والحساسيات التي تمكِّن من استنساب أشكال التواصل والتعامل مع هياكل السلطة في المجتمع المحلي بما يضمن جدوى التدخلات في تنميته. وهناك إسهامات متخصصة للإنتروبولوجيين «في مجال علم الدلالات ولغة الرموز والإشارات التي تستخدمها الجماعة المعنية... ومن أجل تجنب التفسيرات الخاطئة والتقييدات غير المتوقعة يجب، بالفعل، فهم مدى حجب الاختلافات الظاهرية لأوجه تشابه أكثر عمقاً، والعكس بالعكس». (1)
وإذا كانت الثقافة قد ظلّت حاضرة دائماً في الأبحاث السوسيولوجية، فاعلة أو منفعلة في فهم التشكل والتغير في البُنى الاجتماعية ، إلا أن من السهل ملاحظة التزامن خلال العقد الأخير من القرن العشرين بين ظروف بروز البعد الثقافي التراثي في مفهوم الهوية ما دون الوطنية (الإتنية أو الطائفية أو ما شابه) من جهة وبين ظروف تراجع القدرة المركزية للدولة في إدارة المجتمعات الفقيرة خاصة. هذه المجتمعات التي كانت الحكومات فيها، بفعل هيمنتها على الإعلام والتعليم اللذين يطالان عوام الجماعات المحلية والنخب، تشيع في خطاباتها نوايا إدماج الجماعات الثقافية المحلية داخلها ولكنها كانت في الوقت عينه تشجع زعماء هذه الجماعات على تحويلها إلى عصبيات بفعل ما وفرته لهم من تنفذ في إداراتها الزبائنية ضامنة بذلك ولاءات الجماعات لزعاماتها الموالية فتضمن في الوقت عينه من خلال توافق هذه الزعامات، التوحيد الهش لسلطتها الحكومية المركزية. وفاقم من هشاشة أوضاع هذه السلطة المركزية تدهور قدراتها الاقتصادية والاستثمارية خلال العقود الثلاثة الأخيرة مما انعكس سلباً على تدخلاتها في رعاية شبكات الأمان الاجتماعي وتمويلها. وكان هذا التدهور لقدرات الحكومات ولقصورها في مواجهة أزماتها المتنوعة يعود أولاً إلى تخليها المبكر عن حماية أسواقها وقدراتها التصديرية كما انعكس توسعاً في البطالة واختلال موازينها الاقتصادية، وتراجعا في القدرات الشرائية للمأجورين وصغار المنتجين في الوقت الذي تعززت فيه ثقافة الاستهلاك وزاد إلى جانب ذلك التأثير السلبي لعولمة الاتصال الثقافي والإعلامي التي أدت إلى مزيد من الانكفاء عن الانتظام في حركات المعارضة الإصلاحية ومن تفكيك النسيج الوطني وإبراز الهويات العصبوية المحلية. وساعد على ذلك تشجيع الإعلام الفضائي الاحتكاري المتطور لإبراز التراثات الثقافية الموروثة لهذه الهويات والدعم المباشر الذي يصل إلى حد الاهتمام المباشر لما يُسمى بالمجتمع الدولي برعاية شرعنة تطلعاتها إلى الأمان والسيادة من خلال الانفصال عن الدول المركزية التابعة لها. ويصل هذا الدعم «الدولي» إلى حد اعتبارها بمثابة «محليات كوسموبوليتانية كحق دولي»(2) كما يقول(Wolfgang SACHS). وذلك طمعاً في استثمار المزايا المحلية الجيواقتصادية و/أو الجيوسياسية لهذه الجماعات أو المجتمعات التي تحتاجها مصالح الدول الأقوى في المجتمع الدولي.
وبرز الظهور المباشر وغير المباشر لهذه المحميات البشرية المحلية ليؤكد أن النزعة النيوليبرالية خلقت فهماً جديداً لتدخلها واستتباعها للدولة في المجتمعات الفقيرة، وهذا ما يظهر جليا في الحالة اللبنانية، حيث بات استقرار الدولة، رهين توافق القوى الدولية والإقليمية الأقوى. توافق يفرض على القوى السياسية الأساسية تعميق زبائنيتها لمراكز الدعم الخارجي لتتمكن من تدعيم وتجديد زبائنيتها في الداخل من خلال توسيع خدماتها للفعاليات الدينية والسياسية النافذة في حكم المحليات المناطقية من جهة أخرى.
لقد تواصل العمل بالنهج الزبائني وفي ترسيخ عصبوية الهويات الطائفية، ولا سيما بعد اغتيال الزعيم رفيق الحريري، بفعل الدعم الدولي والإقليمي لزعامات الطوائف المعتمدة حصرياً من الخارج. وقد توزع هذا الدعم بين تحالف زعماء الموالاة بحجة دعم استقلال الدولة وسيادتها على حدودها وحصرية الشرعية بالعمل الحكومي في تمثيل المواطنين وفي احتكار قرار السلام وقرار الحرب، وبين تحالف زعماء المعارضة بذريعة مشروعية مقاومة الاحتلال الإسرائيلي والدفاع عن الدولة المركزية الضعيفة وعن حقوق الأمة العربية والإسلامية داخل الدولة وخارجها.
وفي هذا الصدد يُشير برتران بادي (3) إلى ظهور ما يُسميه «جماعات دينية عابرة للأوطان في كل مكان تقريبا كصدى للتشكيك بالنموذج الدولتي...» تبحث عن انتماء إيديولوجي سياسي أو ديني أو إتني مع قطب خارجي بهدف دعم التوجه العصبوي الضيق لزعاماتها ليعملوا باستقلال داخله بما يوفر لها فرص ضمان تجدد تمثيلها الحصري الذي يسهّل عليها مفاوضة الدولة الضعيفة لفرضه. وهذا ما لا يُتاح لها في إطار الدولة المركزية القوية، وما بات يتوافر لها في ظل العولمة النيوليببرالية للأسواق والثقافات وهو شبيه بما كان يتوافر لها في ظل الإمبراطورية العثمانية التي كانت سماتها الرئيسية تتمثل، كما في باقي الإمبراطوريات بـ»عسكرتها وأقاليمها غير الواضحة المعالم وغموض حدودها وتبشيرها الديني المحموم وضعف مأسستها. ومن هذا التوتر ينشأ تعارضها مع فكرة القومية بما هي جماعة سياسية موجودة في إقليم، وبسبب هذا التوتر كذلك تنتهي الإمبراطوريات على تمفصل مضمون، إلى حد ما، بين أشكال التضامن الميكرواجتماعية والماكروثقافية».
وإذا كان ترهل مركزية الدول الفقيرة وعولمة النفوذ الإمبراطوري للدول الغنية قد أتاحا فرص نكوص الجماعات المحلية إلى هويات عصبوية، إلا أن ذلك لا يعني توافر الحظوظ المتكافئة أمام جميع زعاماتها للحصول على الدعم السياسي والتنفيعي من الحكومات المركزية و/أو المراكز الإقليمية والدولية النافذة ممثلة بمنظماتها المانحة. وكثيراً ما يُلاحظ تزايد استبداد الحكومات كرد فعل على تغلغل النفوذ الخارجي من خلال تمسكها بشرعية النصوص القانونية المستوردة في قمع المعارضات المتوسعة، مما يدفع بزعاماتها إلى البحث في الخارج عن محور معارض للمحور الداعم للحكومة المركزية يعوضها عمّا فاتها أن تحظى به في الداخل.
ظروف العلاقة بين الهوية والثقافة
الثقافة هي صيرورة تراكمية من المعارف والخلاصات تمهد لتقبل الأفراد والجماعات المحلية لتعديلات تفرض نفسها على تراتبية الهويات المتعددة التي يتعرفون بها. وتأتي هذه التعديلات متلائمة أو منفعلة مع حصيلة الممانعات والمواجهات التي تخوضها النخب والجماعات في مواجهة الهوية السياسية والثقافية المهيمنة. هذه المواجهات التي قد تؤدي إلى إعادة ترسيخ هوية تيار أو تيارات الثقافة المحافظة المهيمنة في السلطة كجوهر ثابت لها أو تؤدي بفعل متغيرات سياسية ـ اقتصادية داخلية و/أو خارجية مغايرة إلى غلبة تيار ثقافة أكثر ميلا إلى تعددية مدنية في الثقافة السياسية وأحياناً إلى تجاوز الثوابت الثقافية للهوية المهيمنة تقليدياً وإن احتفظت التراتبية المستجدة للهويات بتعبيرات وسلوكيات من الثقافة التي كانت تهيمن في تراتبية الهويات السابقة.
وجدير بالذكر أن تفاوت مستويات العقلنة والأدلجة والخرافة في الرساميل الاجتماعية والثقافية المهيمنة لدى قيادات الجماعات ونخبها هو الذي يحدد مدى تقبلها لتعديل التراتبية في تركيبة هوياتها. وهو الذي يحدد مدى انفتاحها لتلقي الثقافة العقلانية الضرورية لتنمية موارد المجتمع المحلي ولمدى ارتباط هذه التنمية للموارد المحلية بسياسات ماكرو اقتصادية ـ اجتماعية حاضنة أو يحدد بالعكس ميول تلك القيادات والنخب للبقاء في إطار ثقافة التعبئة العصبوية، الضرورية هي أيضاً، لاستدامة كل من السلطة الأهلية المحلية والسلطة المركزية المستفيدتين من تخلف الجماعات الموالية لهما وإفقارها. وتجدر الإشارة إلى أن آليات الإفقار والتخلف المتوسعين في ظل تحرير الأسواق والمزاحمة الإغراقية للموارد المحلية وما أدت إليه من توسع البطالة والتهميش الاجتماعي وترهل الإدارة الحكومية، في ظل عجزها عن الإنفاق لصيانة أمنها الاجتماعي، شكلت كلها عوامل تعبوية مساعدة في تحصين هويات العصبيات وفي تنصل زعامات الجماعات وإعفائها من أخلاقيات الالتزام بمضامين الثقافة المدنية حول الديموقراطية والمواطنية.
لقد أدى توسع مصادر الثقافة والإعلام بقيمهما النيوليبرالية وجاذبيتهما لكل الهواجس والأذواق في البلدان الفقيرة إلى نكوص لدى العوام المهمشة عن مشروع الهوية القومية أو الوطنية إلى الهوية الميكروثقافية الأهلية التقليدية. وأدى ذلك التوسع الى حراك مُقلق في تراتبية الهويات وإلى تصادم الانتماءات لدى الشباب أو النخب المنفتحة على تلك المصادر «إلا أن الفرد المنتمي إلى ثقافات متعددة يضع، وكما يفعل ذلك كل واحد، انطلاقا من انتماءاته الاجتماعية المتنوعة (جنساً وعمراً وطبقة اجتماعية ومجموعة ثقافية) وباستخدام مختلف هذه المواد، هويته الشخصية المفردة، منجزاً بذلك تأليفاً أصيلاً. تكون النتيجة، إذاً، هوية توليفية لا ثنائية، إذا ما قصدنا بذلك جمع هويتين في شخص واحد... لا يمكن لهذا «الصنع» أن يكون إلا وفقاً لإطار علاقة مخصوصة بوضعية معينة».(4)
وفي هذا السياق يجدر التمييز بين تعددية ثقافية لجماعات تتشارك في التزام القيم العقلانية والموضوعية والصدقية في الاجتماع المدني التعاقدي وتبادل المصالح واعتماد الحدود الملائمة بين احترام حقوق الأفراد الكونية من جهة واحترام خصوصيات الثقافات للجماعات التي ينتمون إليها. كما هي الحال في المجتمعات الغنية ومنها المجتمعان الأميركي والفرنسي كنموذجين في التعدد المدني رغم اختلافهما. وبين تعددية ثقافية لجماعات تتوافق زعاماتها على تحصين عصبياتها من خلال تحاصص السلطة والثروة على حساب الدولة كما هي الحال في غالبية المجتمعات الفقيرة ومنها لبنان.
([) ـ نص مقتطع من دراسة قدمت في ندوة نظمتها «الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع» حول الهوية والمواطنية والتنمية.
(1) ـ «البعد الثقافي للتنمية ـ نحو مقاربة عملية» منشورات اليونيسكو ـ الإسكوا 1993 ، ص ص: 166 ـ 168.
(2)  توصيف أورده فيليب ماكماييل في مقالة بعنوان «العولمة أساطير وحقائق»، مجلة عالم المعرفة، «من الحداثة الى العولمة» الكويت، عدد 310 ، عام 2004 ، ص 611 .
(3) ـ «الدولة المستوردة ـ غربنة النصاب السياسي» برتراند بانيه، ترجمة شوقي دويهي، منشورات دار الفارابي ـ بيروت 2006

الحمد لله
ماشاء الله تبارك الله
بارك الله فيكم وهدانا جميعاً

مشكوووووووووووووووووووووووووووووووور

مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور

بارك الله فيك

مشكووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور

thanks

goooooooooooooooood

gooooooooooooooo kingmax Evil or Very Mad

gooooooooooooooood What a Face

مشكوووووووووووووؤ

مشكوووووووووووووؤ Laughing

مشكووووووووووووووووووووووووووووووووور

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

مشكووووووووووووور lol!

جميل اووووووووووووووووووووووى

مشكوووووووووووووووووووووووووووور

رائــــــــــــــــــــــــــع

رائع

مشكوررررررررررررر كارثة المحميات ابشرية 120090516172832

بارك الله فيك وننتطر منك المزيد بإذن الله
تعالى

شكرا على الموضوع الجميل هذا بكل ما يحتويه من تفاصيل
يسلمووووووووووووو

_________________
كارثة المحميات ابشرية %D8%AD%D8%A8

-- قد تنموا الصداقه لتصبح حبا ولكن لا
يتراجع
الحب ليصبح صداقه

جميل جــــــــــدا

شكرا على الموضوع الجميل هذا بكل ما يحتويه من تفاصيل
يسلمووووووووووووو

_________________

--
قد تنموا الصداقه لتصبح حبا ولكن لا
يتراجع
الحب ليصبح صداقه

كارثة المحميات ابشرية

كارثة المحميات ابشرية :: تعاليق

كارثة المحميات ابشرية