الرحمة من الأخلاق والمبادئ الأساسية في الإسلام، وهى رقة في القلب وحساسية في الضمير، وإرهاف في الشعور، تستهدف الرأفة بالآخرين، والتألم لهم، والعطف عليهم، وكفكفة دموع أحزانهم وآلامهم... وهى التي تهيب المؤمن أن ينفر من الإيذاء وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدر خير وبر وسلام للناس أجمعين(1).
والرحمة في أفقها الأعلى وامتدادها المطلق صنعة المولى تباركت أسماؤه. فإن رحمته شملت الوجود وعمت الملكوت، فحينما أشرق شعاع من علمه المحيط بكل شيء أشرق معه شعاع للرحمة الغامرة(2). ولقد جاء لفظ «رحم» ومشتقاته ثلاثمائة مرة في القرآن الكريم، الأمر الذي يدل على اتساع المساحة التي تشغلها الرحمة في الحياة الدينية والإنسانية.
ولذلك كان من صلاة الملائكة لله -عز وجل-: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ } [غافر:7].
ولعظم الرحمة وأهميتها وصف الله تعالى بها نفسه، مرة باسم الرحمن، ومرة باسم الرحيم، فهو رحمن الدنيا، رحمة تعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة حيث تخص رحمته المؤمنين وحدهم: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب:43].
وقال تعالى: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ } [النساء:175].
وقال عز وجل: { إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ } [الأعراف:56] وكثير من أسماء الله الحسنى ينبع من معاني الرحمة والكرم والفضل والعفو، وقد جاء في الحديث القدسي: «إن رحمتي تغلب غضبى»(3) أي أن تجاوزه عن خطايا البشر يسبق اقتصاصه منهم، وسخطه عليهم، وبذلك كان الله -عز وجل- أفضل الرحماء: { وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ } [المؤمنون:118] فالله تعالى هو أرحم بخلقه من غيره، إذ إنه هو الذي خلقهم، فهو أرحم بهم من أمهاتهم اللائى ولدنهم. ورحمة الله تسع كل الخلائق، والذين يتقون الله -عز وجل- ينالهم النصيب الأكبر من رحمة الله، يقول تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } [الأعراف:156].
ونستطيع أن ندرك أن الرحمة في لغة الكتاب العزيز هى: كشف الضر أو العذاب عن الناس، أو تخفيفه عنهم، أو تجنيبهم إياه، يقول عز وجل: { وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي
آيَاتِنَا } [يونس:21]، ويقول تبارك وتعالى: { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ } [الإسراء:54].
وقد جعل الله تعالى الرحمة صفة أصيلة في الرسول – صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [التوبة:128] ويقول تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران:159]، بل إن الله -تعالى- أرسل محمدًا – صلى الله عليه وسلم - وجعله رحمة لكل البشر، فقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
يقول الشيخ الغزالى: «لقد أراد الله أن يمتن على العالم برجل يمسح آلامه، ويخفف أحزانه ويرثى لخطاياه، ويستميت في هدايته ويأخذ ويناصر الضعيف، ويقاتل دونه قتال الأم عن صغارها ويخضد شوكة القوى حتى يرده إنسانًا سليم الفطرة لا يضرى ولا يطغى.. فأرسل محمدًا -عليه الصلاة والسلام- وسكن في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى ما جعله أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدرًا»(4).
والرحمة مبادرة إنسانية نبيلة تبرهن على سلامة حسنا الخلقي وحدته، وعلى نضج إنسانيتنا، وتوطد مشاعر الإخاء الإنساني في ضمائرنا.
الرحمة هي التعبير الخلقي العملي عن تعاطف الإنسان مع أخيه الإنسان حين يواجه المرض أو الألم أو حين يقع في المآزق والملمات دون أن يجد الحيلة للفكاك منها. والإنسان الرحيم يبادر إلى هذا أو ذاك تحدوه الرغبة في كشف العذاب عنه أو تخفيفه عن كاهله(5).
رحمة التشريع الإسلامي:
من رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم ما يرفع عنهم الحرج، ويجلب لهم المصلحة، يقول الله -عز وجل- { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل:89]. فالرحمة في اتباع كتاب الله، بتحليل حلاله، وتحريم حرامه، والبشرى في تحقيق معنى الإسلام.
ويقول تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء:82].
ففي منهج القرآن رحمة من أمراض القلب التي تجعل حياة الإنسان عذابًا، بما فيه من نار الحقد، والحسد، والقلق، والحيرة، والشك، وعبودية الهوى، وفي منهج القرآن رحمة من أمراض النفس التي تجعل حياة الإنسان جحيمًا، وفي منهج القرآن الرحمة من انحراف العقل وشروره، وفي منهج القرآن الرحمة لأعضاء الجسد بكفها عما هو من شأنه أن يصيبها بالضرر، وفي منهج القرآن الرحمة بتشريعاته التي ترفع الحرج والمشقة والعنت عن الناس، وتجعل المصلحة العامة مقصدًا من مقاصده؛ وفي منهج القرآن الرحمة من العلل الاجتماعية التي تفتك بالمجتمع وتفقده أمنه وطمأنينته(6).
وفي الحديث عن نفي الحرج والمشقة يقول تعالى: { طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } [طه:1-2]. وإذا تطرقنا إلى المجالات المختلفة للتشريع الإسلامي نجد أنها تتسم بالرحمة ورفع الحرج:
أولاً: في مجال العبادات:
يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:77-78].
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } أي: ما كلفكم ما لا تطيقون، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجًا ومخرجًا، فالصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين تجب في الحضر أربعًا، وفي السفر تقصر إلى اثنين، وفي الخوف تصلى رجالا (مشاة) وركبانًا، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. والقيام فيها يسقط لعذر المرض فيصليها المريض جالسًا، فإن لم يستطع فعلى جنبه، إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض والواجبات. ولهذا قال -عليه السلام-: «بعثت بالحنفية السمحة»(7).
ثالثًا: في التشريع الاجتماعي:
شرع الله الحدود والقصاص صيانة للمجتمع، ورحمة به من عبث المفسدين.
ففي حفظ الأعراض في المجتمع يقول الله تعالى: { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النور:2].
وفي حفظ الأعراض من إلصاق التهم بها، قال تعالى: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [النور:4].
وفي هذا التشريع ردع لأولئك الذين ينتهكون أعراض الناس بالاعتداء عليها، أو بإلصاق التهم بها، وفي هذا رحمة للأعراض من أن تنهشها ذئاب البشر.
وفي حفظ الأنفس والدماء أوجب الله القصاص؛ حماية للمجتمع وصيانة له، ومع ذلك رغب في العفو والتسامح، يقول تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى
بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:178-179].
فما جعل الله القصاص إلا رحمة للمجتمع من نار الثأر وما فيه من ظلم لغير الجاني، ومن إشاعة الفوضى في المجتمع، حيث يفقد المجتمع أمنه واستقراره(9).
نماذج من تطبيقات الرحمة:
لقد أمر الإسلام بالتراحم العام، وجعله من دلائل الإيمان الكامل، فالمسلم يلقى الناس قاطبة، وفي قلبه لهم عطف مذخور وبر مكنون، فهو يوسع لهم ويخفف عنهم جهد ما يستطيع.
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: «لن تؤمنوا حتى تراحموا. قالوا يا رسول الله كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة»(10).
وعن النعمان بن بشير - رضى الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم؛ مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(11).
النماذج التطبيقية للرحمة منها:
1- الرحمة بالوالدين:
ويكون ذلك بخفض الجناح لهما، والقيام على خدمتهما، وحسن رعايتهما، والتذلل لهما لكسب ودهما.
يقول تعالى: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء:24].
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14-15].
وقد حثت السنة النبوية الشريفة على بر الوالدين، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبى – صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله»(12).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم»(13).
وروى عن أبى أسيد مالك بن ربيعة الساعدى، قال: بينما نحن عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقى من بر أبويَّ شيء أَبَرُّهُما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما»(14).
15).
2- الرحمة بالأولاد:
ويكون ذلك بحسن تربيتهم، انطلاقًا من مسئوليته عنهم أمام الله تعالى، يقول عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم:6].
كما تكون الرحمة بهم بإشباعهم من العطف والحب والحنان. فعن أبى هريرة - رضي الله عنه- قال: «قبَّل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - الحسن أو الحسين بن على وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا قط: فنظر إليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وقال: «من لا يرحم لا يُرحم»(16).
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: «من كان له ثلاث بنات، وصبر عليهن، وكساهن من جدته، كُنّ له حجابًا من النار»(17).
ولتحقيق الرحمة بالأولاد يمكن اتباع ما يلى:
أ- الحرص على تعليم ما ينفع الولد، وعدم تركه سدى، فليس من الرحمة إهمالهم بما يترتب على ذلك فسادهم.
ب- البعد عن مجالس اللهو والباطل وسماع الفحش والبدع، فليس من الرحمة تعليمهم هذه الموبقات.
ج- تجنيب الولد الكذب والخيانة.
د- تجنيبه الكسل والبطالة والدعة والراحة.
هـ- تجنيبه مظان الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج(18).
3- صلة الرحم:
الرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فيجب أن تستقيم معها في معناها، ويطلق الرحم على الأقارب من جهة الأبوة أو الأمومة .
وقد حث القرآن الكريم على صلة الرحم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } [النساء:1].
وقال -عز وجل- { وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنفال:75].
وقد حثت السنة النبوية على صلة الرحم، فعن أبى هريرة - رضي الله عنه- عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه، قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يارب، قال: فهو لك»، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فاقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ }(19) [محمد:22].
وعنه - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه»(20).
وعن النبى – صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(21).
هذه الوجيهات الإسلامية تحث المسلم على صلة الرحم، وتدفعه إلى أن يؤدى حقوق أقاربه، وأن يقوى بالمودة الدائمة صلات الدم القائمة.
4- الرحمة باليتامى:
وممن تجب الرحمة بهم اليتامى فإن الإحسان إليهم، والبر بهم، وكفالة عيشهم، وصيانة مستقبلهم من أزكى القربات، بل إن العواطف المنحرفة تعتدل في هذا المسلك وتلزم الجادة.
فعن أبى هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه فقال: «امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين»(22).
وفي رواية: أن رجلاً جاءه يشكو قسوة قلبه فقال له: «أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك وتدرك حاجتك»(23).
وذلك أن القلب يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم، والتي تصبح وتمسى وهى لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة، ونعمها الباهرة، والمترفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير؛ لأن الملذات التي تيسر لهم تغلف أفئدتهم، وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج، وألم المتألم، وحزن المحزون، والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة، والمشاعر المرهفة، عندما يتقلبون في أحوال الحياة المختلفة، ويبلون من السراء والضراء.. عندئذ يُحسُّون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، وبالتبعية مع البائس الفقير(24).
5- الرحمة بالحيوان:
فالرحمة في الإسلام لا تقتصر على البشر فحسب، بل تتعداها لتشمل جميع خلق الله حتى الحيوان، وقد شرعت السنة المشرفة، ودعتْ إلى الرحمة بالحيوان، فأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم - بالإحسان في القتل والذبح، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم، فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته»(25).
ونهى الرسول – صلى الله عليه وسلم- عن ركوبها لغير غرض ومنفعة، وقد دخل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل، فقال لهم: «اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركبة خير من راكبها، وأكثر ذكرا لله منه»(26).
بل جعلت السنة المشرفة إيذاء الحيوان سببًا في دخول النار، فقال – صلى الله عليه وسلم -: «دخلت امرأة النار في هرة سجنتها حتى ماتت، فدخلت فيها النار، لا هى أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هى تركها تأكل من خشاش(27) الأرض»(28).
هذه بعض صور الرحمة التي جاء بها ديننا الحنيف، وتميز عن سائر الأديان والملل التي قلَّت فيها الرحمة، وضعفت فيها الشفقة، وكثرت القسوة، وتعددت فيها صور العنف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان، 1/360-361.
(2) خلق المسلم، الشيخ محمد الغزالي، ص 203.
(3) رواه مسلم.
(4) خلق المسلم.
(5) الفضائل الخلقية في الإسلام، ص 175.
(6) أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته، ص 262.
(7) تفسير ابن كثير، 3/239.
(
تفسير المنار، 4/126.
(9) أخلاق الإسلام وأخلاق دعاته، ص 264-266.
(10) رواه الطبراني.
(11) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، 4/2021.
(12) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، حديث رقم (7534).
(13) رواه الطبراني، وانظر الترغيب والترهيب، 3/318.
(14) سنن أبى داود، كتاب الأدب، حديث رقم (2/514).
(15) أصول المنهج الإسلامي، 421-422.
(16) رواه البخاري.
(17) رواه البخاري في الأدب المفرد، 1/159.
(18) أصول المنهج الإسلامي، ص 429.
(19) صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم (5987).
(20) صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم (5986).
(21) صحيح البخاري، كتاب الأدب، حديث رقم (6138).
(22) رواه أحمد.
(23) رواه الطبراني.
(24) خلق المسلم، الشيخ الغزالي، ص 209-210.
(25) رواه مسلم.
(26) رواه أحمد وأبو داود.
(27) خشاش الأرض: هوام الأرض وحشراتها.
(28) صحيح مسلم، كتاب السلام، حديث رقم (2242).
~~~elking_max~~~
السبت يوليو 18, 2009 7:44 pm من طرف Mr.Emad