من المسلَّم به أن اللغة ظلٌّ لحياة الأمة، ومرآة تبدو على
سطحها حالُ تلك الأمة وما هي عليه من نباهة وسمو، أو ركود وخمول. فاللغة هي الوسيلة
الوحيدة التي تسجل بها الأمة علومها، وتدون آدابها، وتكتب تاريخها، وتستوعب نتائج
عقول أبنائها، في مختلف نواحي النشاط البشري. فهي ـ لذلك ـ ألزم لوازم الأمة الحية
المستقلة التي تشعر بوجود، وتحس بكرامة. زد على ذلك أن اللغة أهم الروابط التي تربط
الجيل الحاضر بالأجيال السابقة، وتنقل إليه في وضوح وصدق الجهود التي بذلوها في دعم
الحضارة الإنسانية، وما كشفوه من مخبآت هذا الكون، فيتسنى لهذه الأجيال أن يبنوا
على هذا الأساس، ويسيروا في تلك السبيل.
وما غايتنا في هذه العجالة إلاَّ
تنبيه وإفادة القارئ المثقف إلى الوقوف على آثار أجداده السابقين، حاملي لواء
الحضارة في الشرق، الذي لا ريب فيه أن نور المدنية قد انبثق منه، وعلى أيدي الأجداد
القدامى نشأت أول حضارة عرفها التاريخ.
وقد بات إذ ذاك لزاماً على كل قارئ
ومثقف في هذا العصر، أن يقف وقوفاً تاماً على آداب تلك الأمم، وأن يكون على قدر من
المعرفة والعلم بأساليب لغاتها، فيعرف كيف نشأت وتطورت، وأثر بعضها في
بعض.
وقد آثرنا في مقالنا هذا أن نتناول إحدى تلك اللغات الحية ـ اللغة
العربية ـ بما اشتملت عليه من آداب إنسانية. إن اللغة العربية هي إحدى لغات عدة
تؤلف في مجموعها أسرة لغوية، سميت باللغات السامية. والأصل في هذه اللغات واحد، هو
اللغة الأم التي نصل إلى خصائصها وموادها بما نشهده في مجموع هذه اللغات. ومن
مميزات العربية بالذات، إنها تشتمل على عناصر قديمة جداً من اللغات السامية
الأصلية، وهذا يدل على أن اللغة العربية كانت موجودة في مهد اللغات السامية.
وبالموازنة بينها وبين تلك اللغات أخواتها يمكننا القول: إن العربية أغناها جميعاً،
ولا تقل في ثروتها اللغوية والأدبية عن اللاتينية قديماً، والإنكليزية حديثاً، بل
إننا لا نكون مدَّعين إذا قلنا إن اللغة العربية من حيث المفردات تفوق جميع اللغات
الحية. وتمتاز من سائر اللغات الأخرى بوفرة كلماتها وتنوع أساليبها، وعذوبة منطقها،
ووضوح مخارج حروفها. وإن نظرة واحدة إلى معاجم اللغة العربية تدلنا على أنها غنية،
وغنية جداً بألفاظها وتعبيراتها، وما فيها من مفردات ومترادفات، وبما فيها من ضروب
الإشتقاق والمجاز والإستعارة والكناية، إذ تصلح للأغراض العلمية والأدبية، فهي لغة
العلم والأدب. ومن السهل أن تكتب بها ما تشاء، وأن تترجم إليها ما تشاء.
وقد ظلَّت هذه اللغة أداة لنشر الثقافة، وبرهنت على استعدادها لتكون لغة
علم وفلسفة، بعد أن أظهرت كفاءتها في ميدان الآداب والمعرفة. حيث أغنت الفكر
الإنساني بما احتوته من كنوز علمية فاضت بها تلك الصروح والمنارات الثقافية على مر
العصور، واتسعت مكانتها اللغوية بما نقله إليها هؤلاء المترجمون من أمهات الكتب
اليونانية وغيرها، في المنطق والفلسفة والطب والفلك والرياضيات، وبذلك صارت لغة
الحكمة والكتابة والتأليف، وصار أهلها ذوي بحث وفكر. كما أن موسيقية الألفاظ ودقة
الأوزان وجمال التعبير وسحر الأداء الذي امتازت به هذه اللغة والذي تجلى في هذا
الفن الشعري الذي وعته، وذلك المجهود الأدبي الذي خلفته، إن في جاهلية العرب بتلك
المعلقات الشعرية وأسواق الأدب الشعري، أو في صدرالإسلام من خلال الفن القصصي
والروائي وتدبيج المقالة، فهو خير دليل على مكانتها الأدبية، حيث ما زال ذاك المعين
الأدبي ينضح عطاءً في عصرنا الحالي ليؤكد التواصل الثقافي والحضاري.
لقد ترك العرب ـ وما زالوا ـ ثروة لغوية وفنية وروحية وإنسانية،
فيما تركوه من الكتب والمؤلفات والمخطوطات العربية. وقد استفاد الغرب والأدب الغربي
من الشرق والأدب العربي كثيراً في القرون الوسطى. وكان للحضارة الشرقية والمدنية
العربية أثر كبير في النهضة الأدبية في عصر النهضة الأوروبية. وما زال حتى اليوم
التفاعل الثقافي والأدبي متواصلاً بين الشرق والغرب في أعلى عطاءاته الفكرية
والعلمية.
وما قول الكاتب الفرنسي فكتور
هوجو في تأكيده على هذه الحقائق عندما كتب < بأن العالم في عصر لويس الرابع عشر
كان مقبلاً على الدراسات الأغريقية، أما الآن فقد أقبل على الدراسات الشرقية، لما
فيها من فن وجمال وخيال وآراء وأفكار> إلاَّ دليلاً على رفعة مكانة اللغة
العربية وعظمة تجليات الأدب الإنساني المنظوم والمنطوق بحروف ولسان
عربي.
الجمعة فبراير 12, 2010 12:47 am من طرف Sad girl